ترك الطرد النهائي للموريسكيين عام 1609 ندوبا عميقة في ذاكرة العرب والمسلمين لم يمحها الزمن، كما بقي منه على الأرض الاسبانية آثار في البنيان وفي الوجدان ما زالت تذكر بالدور الحضاري الذي أداه المسلمون في ذلك الصقع الأوروبي البعيد عن ديارهم . هكذا شاءت ظروف تاريخية معينة أن يرتبط مصير أقوام من العرب والبربر المسلمين بمصير الوطن الاسباني منذ ارتضوه موطنا نهائيا لهم، واستقروا به قابلين جميع الأدوار التي فرضتها عليهم تقلبات التاريخ، فكانوا حكاما محتلين أول أمرهم، ثم محكومين مدجنين تحت النصارى الفاتحين بعد ذلك، وفي النهاية موريسكيين متنصرين مستذلين في حاضرهم، خائفين من مستقبل غامض قد يأتيهم بما هو أشد وأقسى، وقد حدث فعلا ما خافوا منه طويلا يوم قرر الملك الإسباني طردهم نهائيا، متناسيا أنه بطردهم إنما يطرد جزءا من مواطنيه الإسبان، قد تكون جذورهم عربية لكن القرون الثمانية من المعايشة والاختلاط مزجت دماءهم بدماء القوط والغجز والروم والنرمان وغيرهم من سكان ايبيريا الأصليين والوافدين كما إنهم أضاعوا بعد نجاح حروب الاسترداد الكاثوليكية وأعوام التدجين الطويلة كل ما بقي لديهم من صلات تربطهم بجذورهم الإسلامية القديمة، بما في ذلك الدين واللغة. ومما يجلب الانتباه أن نرى اهتماما واسعا هذا العام بالطرد النهائي للعرب والمسلمين شمل إسبانيا كلها، حتى إن ندوات عقدت، ومحافل اجتمعت لدراسة جوانب هذه الحادثة الخطيرة وآثارها كما أن كتبا كثيرة صدرت بنفس المناسبة آخرها كتاب السيد مانويل ثابريان يذكّر فيه بالظروف التي تم فيها الطرد وبالنتائج الرهيبة التي واجهتها إسبانيا من جرائه اجتماعيا وسكانيا واقتصاديا... وثمة كتاب آخر قد يفوقه في الأهمية أصدره المستعرب الأستاذ لويس ف. برنابي بونس تحت عنوان «الموريسكيون : نزاع، طرد، ومهجر» سنفصل القول حوله في ركن قادم، ولا يفوتني بالمناسبة ذاتها التنويه بالجهد الكبير الذي بذله الأستاذ محمد عبد الكافي الباحث المقيم في اسبانيا والأستاذة كارمن رويث برافو لاخراج رواتي «تغريبة أحمد الحجري» باللغة الاسبانية اذ قام الأول بترجمتها إلى لغة ثربانتس ترجمة صافية معبرة شجعت الأستاذة كارمن على نشرها ضمن سلسلة «كانتا أرابيا» التي تشرف عليها بمدريد في طبعة أنيقة جذابة. أما في تونس فقد نظمت مؤسسة التميمي على مدى ثلاثة أيام من أواخر شهر ماي المؤتمر الدولي الرابع عشر للدراسات المورسيكية الأندلسية تابعته شخصيات عديدة وشارك في مداولاته 72 باحثا ودارسا جاؤوا من اسبانيا والمغرب والمكسيك والهند وبورتو ريكو وغيرها، عقد المؤتمر احدى عشرة جلسة للاستماع إلى مائية وثلاثين بحثا اشترك في تقديمها باحثون ينتمون الى جيلين اثنين : الجيل المؤسس لعلم الموريسكولوجيا، والجيل الشاب الذي أحدث اختراقات جديدة في البحث الموريسكي وتفاعل مع الموضوع بجدية خلال هذا المؤتمر. وقد صدرت عن المؤتمر لائحة بها توصيات عديدة أهمها عزم الباحثين والمؤرخين المهتمين بملف الطرد على مواصلة الاهتمام به واكتشاف المزيد من وثائقه ومخطوطاته، وكذلك السعي لدى السلط الاسبانية العليا للاقرار بما حدث مؤكدين أن بنود تحالف الحضارات والثقافات الذي بادرت به اسبانيا بالاشتراك مع تركيا يتنافى مع رفض اسبانيا الاقرار بحصول تلك المأساة الاسبانية والاعتذار عنها لكن سيأتي يوم يحدث فيه ذلك، وما على العالم العربي والاسلامي ومنظماته المختلفة إلا المحافظة على الذاكرة الموريسكية من النسيان باقامة نصب تذكارية في المدن العربية الاسلامية وتسجيل أسماء من أحرقوا أحياء وهو بالمئات حتى يتذكر الجميع أن عليهم دينا حضاريا تجاه الموريسكيين وأن التغافل ونسيان الماضي والتعلل بعدم احراج الطرف الاسباني تجاه هذا الملف لم يعد مقبولا اليوم. على أن الأستاذ عبد الجليل التميمي قد صرح في حديث لوكالة «قدس براس» نشرته في 20 جويلية الماضي أن سفير اسبانيابتونس قال له عندما زاره في مكتبه يدعوه للمؤتمر : «نعتذر لكم، ولكن ذلك لا يتم في فنادق أو مؤتمرات بل في مناخ جيوسياسي ومناخ عربي إسلامي، وجامعة عربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي»، وعلق على كلام السفير بالقول : «وفي اعتقادي أن الدول العربية بثقلها وبامكانياتها قادرة أن تفرض على اسبانيا الاعتذار ولا يأتي هذا مني أنا كباحث، لكن العالم العربي لم يحرك ساكنا في هذا الاتجاه. إنني لا أجد في كلام السفير غضاضة أو تملصا ولقد كان على الأستاذ التميمي أن يبدأ بالتوجه الى قومه وبني عمه ليساندوه ويهيئوا بالعمل الدبلوماسي المناسب وربما ببعض الضغوط ، الظروف المناسبة لاعلان ذلك الاعتذار الذي هو عمل أخلاقي وحضاري قبل أن يكون الزاما بأي تعويض مادي.