[email protected] زرت قصر العدالة «بباريس» فدوخّني وأنا قلّما أدوخ امام قصر من القصور فكل زاوية فيه تحكي عن تاريخ وعن حدث وكل شيء محسوب ومتناسق بلا ارتجال ولا تعثر. ولقد شدّني كثيرا ما خص المحامون به أنفسهم هناك، ففي كل ركن تلحظ حضورهم: مكتبات وقاعات انترنات وقاعات مطالعة وقاعات بحث وورشات عمل حتى انك تخال قصر العدالة قصرهم لوحدهم وتخال كل عامل به دخيلا عليهم وتشعر عندما تتجوّل في ردهات الأمكنة المخصصة لهم بعظمة المحاماة وشأنها الرفيع ولقد انفقت يوما كاملا دون أن أحسّ وأنا أتجوّل مشدوها أمام التماثيل المنصوبة في مداخل كل زاوية حاكية عن تاريخ المحاماة ورجالها. غير أن شعورا بالحسد انتابني عندما اكملت جولتي وتساءلت فيما بيني وبين نفسي عن حق المحاماة التونسية في مثل هذا الاعتناء وعن حق تاريخها في التحرّر من اطاره الشفوي ودخوله مرحلة التدوين والتجسيد حتى تصير لنا أشياء نستدلّ بها عليه. ان انشاء متحف صغير ليس بالأمر العسير، وان تعذر فغرفة تحكي لكل الناس عن الاستاذ الهيلة والاستاذ الحبيب بورقيبة والاستاذ صالح بن يوسف وعن كل الذين ساهموا في حرب الكرامة والحريّة. ألا يستحق هؤلاء شيئا أرقى من التوارد الشفوي و«العنعنة» والحكايات الشعبية؟ الا يستحقون متحفا يحمل اسمهم يكون قبلة لكل الوافدين الجدد ليملأهم ثقة واطمئنانا عند دخولهم المهنة؟ ولست بهذا الاقتراح اتحدث عن انشاء ناطحات للسحاب او سدود عالية او قناطر شاهقة بل أتحدث فقط عن انشاء زاوية «بدار المحامي»، تلك الدار التي فاقت تكاليفها المليون دينار دون ان تجد بها الى اليوم مكانا وحيدا لائقا بقراءة كتاب أو باعداد قضية أو بلباس عباءة وتحوّلت هذه الدار الى «مقهى كبير» لا ترى فيه سوى أثار البنّ والشاي وأعقاب السجائر، أليس من حقنا ان نطالب بتغيير وجه الدار وملامحها حتى تكون حقا منارة وملاذا؟ ويكفي ان نقارنها بمقرات الخبراء المحتسبين حتىندرك حجم الألم والمأساة ولو كنا نعلم مصيرها قبل شرائها لكنا آنذاك طالبنا بمقهى أو بحانوت أو بقاعة نجتمع فيها للدردشة ونقل الاخبار ولا داعي لاهدار كل تلك الأموال على مقر لا اثر فيه للبحث العلمي والتدريب المهني بمقر يقبع المحامون على عتباته لترشف الشاي والقهوة. انك اذا ما تجوّلت بهذا المقر لا تعثر ابدا على نقاش حول فصل من الفصول او قضيّة أو تنقيح لقانون ولكن من الممكن ان تحقق اكتفاءك الذاتي وتشبع حاجتك اليومية من الأخبار والشائعات والأقاويل والمخططات للاطاحة بفلان واهدار للدماء ورفع للحماية ومؤامرات وتكتلات وخيانات وتجمّعات وهتك للأعراض ومسّ بالشرف وتصفية للحسابات واعتذارات احيانا وغيرها من الظواهر التي ما كان لها ان توجد بذلك المقر الذي كان في الأصل مكتبا للاستاذ عمّار الدخلاوي وكان منارة وقبلة وآية في الأناقة والنظام. رحم ا& الاستاذ الدخلاوي والاستاذ الهيلة وكل الذين آمنوا بمحاماة متماسكة، اما نحن فليس لنا من خيار سوى ان نصبر ما استطعنا على «دار... الحبايب».