جاءت زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي إلى اسرائيل لتثبت ان الغايات التي ينشدها المجتمع الدولي تحولها اسرائيل جميعا إلى وسائل لتحقيق أهدافها وغاياتها في الحاضر والمستقبل. ولئن مهد البرادعي لزيارته بالتلميح إلى ضعف احتمالات اقناع اسرائيل بالتراجع عن سياسة الغموض التي تنتهجها منذ سنوات حيال برنامجها النووي فإن مباحثاته مع المسؤولين الاسرائيليين أكدت ان لا حاجة، بل لا فائدة في التخلي عن تلك السياسة طالما أن لاسرائيل قدرات على المناورة والانتقال من موضع الجهة المدانة إلى موضع الطرف الذي يدين الآخرين ويزايد عليهم بأن يعرض السلام وهم له رافضون. وها هي حكومة شارون تستغل زيارة البرادعي على الوجه الأكمل وتدعي مرة أخرى القبول بمبدإ انشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط على أن يتم تحقيق «السلام الشامل» بالمفهوم الذي تراه وتصر في هذه الحالة على التفتيش المتبادل، ومن هنا نفهم التحريض الصهيوني المتواصل على سوريا والزعم بأنها تسعى إلى امتلاك أسلحة دمار شامل وتؤوي ما تسميهم بالارهابيين، إنما هي تسعى بذلك إلى فرض إملاءاتها وشروطها للاستمرار كيانا مجاورا للدول العربية، لا مفرّ من جواره وإلى فرض واقع أنها لن تكون الأولى في المنطقة في امتلاك أسلحة غير تقليدية بدعوى الدفاع عن النفس. فالثابت أن البرنامج النووي الاسرائيلي يندرج ضمن المشروع الصهيوني الاستيطاني الرامي إلى تطويع دول المنطقة واخضاعها لاملاءاته فلم يكن من بد لاسرائيل من أن ترفد الآلة العسكرية بقوة رادعة اضافية، ومن ثمة فإن بناء هذه القدرة لا يقع في إطار الاجراءات الدفاعية كما تدعي وإنما في إطار الارهاب والترويع. ثم ان اسرائيل اتبعت سياسة الغموض في المجال النووي اختيارا لا اضطرارا، لأن أنشطتها النووية لم تكن لتخفى عن أعين المراقبين والخبراء وأجهزة المخابرات، فمنذ عام 1974 اكتشفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.اي.ايه) ان اسرائيل قادرة على تصنيع رؤوس نووية، وقدمت أرقاما تقديرية عن قدرات مفاعل ديمونة في انتاج ما بين رأس وثلاثة رؤوس نووية كل سنة قبل أن يكشف الخبير الاسرائيلي في مجال التسلح مردخاي فعنونو سنة 1986 أن قوة مفاعل ديمونة أكبر من ذلك وأكثر تعقيدا، ويؤكد الخبراء اليوم أن اسرائيل تمتلك بين 200 و400 رأس نووية انطلاقا من تقديرات كميات البلوتونيوم الذي ينتجه مفاعل ديمونة. فإذا كانت سياسة الغموض هذه قد أفرزت مثل هذه الأرقام فما الذي ينتظر العالم إذا ما كشفت اسرائيل يوما عن حقيقة امكاناتها النووية ولن تفعلها حتما. لقد حولت اسرائيل زيارة البرادعي من محاولة للتوصل إلى انشاء شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل إلى مناسبة «لمحاكمة» الآخرين، والظهور بمظهر المستضعف المهدد من جيرانه العرب والفرس فجدّد المسؤولين الاسرائيليون التعبير عن قلقهم العميق من تطور البرنامج النووي الايراني ومارسوا ضغوطا واضحة لصرف أنظار العالم عما تأتيه اسرائيل ولتصوير الخطر قادما من ايران وليست تلك السياسة بجديدة، فمنذ أن اطلقت اسرائيل القمر الصناعي «أوفيك 1» عام 1988 وأتبعته ب «أوفيك 2» سنة 1990 ثم «أوفيك 3» عام 1995 أعلنت صراحة أن القمر يدور في فضاء الأقطار العربية وإيران بل أعلنت قدراته التجسسية في جانب من الضغط النفسي الذي تمارسه على المنطقة. وفي ظل هذه «الثوابت» الاسرائيلية تبقى زيارة البرادعي موضع تساؤل عن جدواها إذا كانت السياسة الاسرائيلية النووية لا تحيد عن مبدإ الغموض إلا لاستبداله بمبدإ الردع بالقوة.