* بقلم الأستاذ عبد الرحمان أفضال «ما دمت أعيش فلا خوف من الموت، وإذا مت فلن أحس بشيء». أبيقور «وهدير يطردني من السرير ويرميني في هذا الممر الضيق... لو أعرف كيف أحرر جسدي... لا أستطيع أن أستسلم لهذا القدر ولا أستطيع أن أقاومه» (محمود درويش «ذاكرة للنسيان»). لم يكن مشكل الموت في شعر درويش أمرا استثنائيا بل هو قديم قدم الإنسانية، فقد سعت جميع الديانات القديمة والأساطير الى تفسير ظاهرة الموت والبحث في هذا المشغل الذي أرق الإنسان عبر العصور. فالصراع ضد الموت ضد الطبيعة سواء من خلال موقف الدهريين أو رجال الدين وحتى الفلاسفة القدامى هو صراع مستمر كان الموت المنتصر فيه أبدا، وبالرغم من أن حضارات وديانات كثيرة خاصة الوضعية منها سعت الى الانتصار على فكرة الموت والتأسيس لمقولة الخلود من خلال صراع الانسان مع قوى الطبيعة التي تتحكم بهذه السلطة (مثل : اكتشاف فكرة التحنيط عند الفراعنة) فإن فكرة الموت مقابل الحياة العدم مقابل الوجود، ظلت مسيطرة على واقع الإنسان وكانت محور اهتمام العديد من الخطابات الفلسفية والدينية والفنية خاصة منها الشعر. ورغم هذا الصراع المستمر الإنسان / الوجود والموت / العدم فقد تم التوصل الى فكرة حتمية الموت من خلال ملحمة «جلجامش» الذي اكتشف هذه الحتمية مع موت «أ نكيدو». لقد أقض هذا المشغل مضاجع الشعراء القدامى وخاصة منهم الجاهليين فلم يكن موضوع الموت وسيلة للتعبير عن الحزن والحرقة واللوعة فقط بل أكدوا من خلاله حتمية هذا الجبار وسلطته يقول أبو ذؤيب الهذلي : وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع ويؤكد ذلك عنترة بن شداد شاعر الحكمة : فالموت لا ينجيك من آفاته حصن ولو شيدته بالجندل لقد ارتبطت فكرة الموت عند الإنسان قديما وحديثا بالوعي بزوال الحياة وعرضيتها وقد مكنت هذه الفكرة الشاعر الفيلسوف أبا العلاءالمعري من ذم الحياة واعتبارها موطن شقاء ومعاناة. والموت راحة للإنسان الشقي في هذه الحياة: ضجعة الموت رقدة يستريح ال جسم فيها والعيش مثل السهاد وقد سبق درويش في الحديث عن الموت باعتباره حقيقة تؤرق الإنسان في العصر الحديث أبو القاسم الشابي : يا موت! قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري لقد عانق محمود درويش الحياة وأحبها وتعلق بها من خلال أمه وأرضه وشعبه لقد كانت هذه الأم التي تغنى بها درويش رمزا للحياة ولكل القيم النبيلة التي يعيش من أجلها الإنسان ويدافع عن كرامتها لأن في عزتها وكرامتها كرامة الإنسان والوطن ويمثل عشقه للحياة جزءا من عشقه للأم «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة يوما على اثر يوم وأعشق عمري لأني إذا مت يوما أخجل من دمع أمي» وقد أحب الحياة لأنها جزء من الأرض التي ولد عليها وترعرع فيها «على هذه الأرض، سيدة الأرض ما يستحق الحياة»، وقد أحب شعبه من خلال التغني ببطولاته في مواجهة الاستعمار. لقد ظل الشاعر العربي الكبير محمود درويش «كالنهر يخلق مجراه» على حد قول أدونيس لقد ظل شعره ذا طابع انساني ونزعة وجودية كونية تتخطى مضامينها جغرافيا المكان والزمان، فالأزمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني المشرد داخل الوطن وخارجه لم تكن أزمة ذاتية فقط بل تجاوزتها الى فيتنام والكونغو والعراق... لقد آمن درويش بالهوية الفلسطينية العربية لكنه أدرك أن الإنسان محور الفن والسياسة. وفاة درويش ليست شأنا بيولوجيا بل فقدان أنطولوجي ثقافي، لذلك موته ليس مناسبة أو فرصة للكتابة وتصيد المعاني الرثائية فالشاعر ليس في حاجة الى تأبين او رثاء لأنه أبّن نفسه ورثاها قبل موته في جداريته الشهيرة : «وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي ولا تضعوا على قبري البنفسج فهو زهر المحبطين يذكر الموتى بموت الحب قبل أوانه، وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت وبعض شقائق النعمان...» فموت المبدعين لا يعني توقف نبضات القلب أو خبو النظرات بل هو تعطل فكرى إبداعي. لقد كانت الجدارية احدى أهم القصائد التي أعلن فيها درويش اصطدامه بالموت في تجربة فريدة ونبرة متميزة لم يسبقه اليها شاعر رغم أن كثيرا من الفلاسفة والأدباء قد شغلهم هذا الأمر ومثل هاجسا في حياتهم. لم تكن مخاطبة درويش للموت أو استشعاره من باب الإحساس بالضعف أو الهزيمة ولا توسلا أمام هذا الجبار الذي قهر جميع الكائنات بل خاطبه خطابا نديا أكد من خلاله عزمه على مواصلة مهامه في الحياة رغم سلطة هذا القدر المحتوم : «فيا موت انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش حيث ولدت»... لم يكن تشخيص الموت في الجدارية مسألة بلاغية مجازية فقط بل سعى من خلالها درويش الى اثبات هذه السلطة من ناحية والتأكيد على انتصار الموت في الزمان لأن الحياة تحكمها هذه الجدلية (الحياة / الموت) (الوجود / العدم) وتكثفت بذلك وسائل المخاطبة التي تؤكد هذا الاصطدام الذي أعلنه الشاعر من خلال الأساليب الانشائية كالنداء والأمر والنهي من أجل تشخيص الموت الذي قهر الإنسان : يا موت ! يا ظلي الذي سيقودني يا ثالث الاثنين يا لون التردد في الزمرد يا قناص قلب الذئب يا مرض الخيال اجلس على الكرسي / ضع أدوات صيدك تحت نافذتي وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة لا تحدق يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة الضعف الأخيرة.