وعلى الرغم من كثافة وسائل الخطاب التي تؤكد سلطة الموت وضعف الانسان في مواجهته فإن درويش استطاع أن يجعل الخطاب نديا، فالصفات والأسماء والأفعال التي أطلقها على الموت لم تخرج عن مجال الفعل الانساني بكل المقاييس فهو يناديه ويأمره وينهاه مؤكدا اعترافه بقوته مقابل ضعف الانسان (لا تحدق يا قوي الى شراييني لترصد نقطة الضعف الأخيرة) فقد أصبح الانسان لا مباليا غير مكترث بهذه السلطة التي آمن بحتميتها وسعى الى تحديها لأنه فشل في مقاومتها. بينما كان الانسان في العصور القديمة يهاب الموت لا لأنه يمثل سلطة وقوة فحسب بل لأنه كان يجهله ويجهل مصدره ويعتبر أن القوى الخفية في الطبيعة هي المسؤولة عنه مثلما كان الانسان في الجاهلية يسبّ الدهر ويعتبره مسؤولا عن الموت. غير أن خطاب درويش بقدر ما كان إقرارا بهذه السلطة/ الحتمية فإنه لم يتأسّس على الرثاء ولا الاعتراف بالضعف ولا التنبؤ بالنهاية بل تجاوز ذلك للتأكيد على البعد الوجودي الفلسفي في معالجة مسألة الموت فتحول بذلك الحديث عن الموت الى نوع من القلق الوجودي إزاء التفكير بالمعاناة التي يعيشها الانسان خاصة في ظل الاستعمار، فالمجتمعات القمعية لا تولّد إلا الشعور بالموت. يقول أدونيس: «إن الانسان الذي يعيش في مجتمع قمعي ميت بطبعه، وحينما يثور يشعر أنه يتحرك ويحيا باستمرار». لقد اختلطت المأساة الذاتية بالواقع الموضوعي ليصبح في شعر درويش وخاصة في الجدارية وسيلة وفرصة للتعبير عن هذا القلق الوجودي الذي غير فكرة الموت فلم يعد تعبيرا عن معاني الفاجعة والحزن والحرقة والإقرار بهزيمة الانسان أمام هذا الجبار مثلما هو الحال عند الشعراء القدامى كالخنساء ومتمم بن نويرة وأبي ذؤيب الهذلي والمهلهل بن ربيعة والحصري القيرواني وغيرهم من شعراء الرثاء، بل استطاع درويش أن يرقى به الى مرتبة الفكرة الوجودية ذات الطابع الفلسفي التي غيرت السؤال عن علاقة الذات بالموت الى علاقة الموت بالذات، فلم يعد الموت عائقا أمام الذات بل أصبح هاجسا وفكرة يستلهم منها الشاعر معاني الحياة وموقع الانسان فيها ودوره. فالموت الذي كان معطلا أصبح محفزا لحب الحياة ولإثبات دور الانسان الفعّال فيها. ولذلك نلاحظ أن درويش لم ينهج سبيل الرثاء مثل القدامى ولا سبيل الشكوى والتعبير عن المعاناة مثلما هو الحال عند الشابي بل واجه الموت بشجاعة الفنان المبدع من خلال اعترافه بسلطته المادية التي لا تمثل انتصارا على الانسان بل هي حقيقة وحتمية مستمدة من السيرورة الطبيعية للحياة في بعدها المادي لأن الموت يهزم الانسان جسديا ولكنه لا يهزم فكره: أنت أقوى من نظام الطب. أقوى من جهاز تنفسي. أقوى من العسل القوي. ولست محتاجا لتقتلني الى مرضي. لم يقتصر خطاب الموت مثلما ذكرنا على الاعتراف بسلطته بل امتد للتعبير عن هذا القلق الوجودي ذي البعد الفلسفي المرتبط بصدى الذات وما تعيشه من إحساس بالغربة في ظل واقع يسيطر عليه القتل والتعذيب والتهجير ليصبح الموت ذا وظيفة مزدوجة فهو النهاية/ العدم، وهو الخلاص في آن معا. لذلك نلاحظ أن الاحساس بالموت اختلط بالحياة وتداخلا بل امتزجا للتعبير عن معنى واحد. فرغم إقرار الشاعر بجمال الحياة وحبه لها فإنه وجد في الموت سبيلا الى التحرر والانعتاق من ظلم الحياة: أين مدينة الموتى وأين أنا؟ ربما مازلت حيا في مكان ما. وكأنني قدمت قبل الآن. لم أفكر بالولادة حين طار الموت بي نحو السديم، فلم أكن حيا ولا ميتا، ولا عدم هناك، ولا وجود يبدو أن خطاب الموت في الجدارية وفي الشعر الفلسطيني بصفة عامة خطاب يؤسّس لمرحلة فكرية جديدة في نظرة الشاعر العربي المعاصر الى الموت باعتباره معطلا للحياة بل باعتباره محفزا لحبها. وقد أدرك درويش هذه الفكرة في جداريته الشهيرة فكان خطابه مشوبا بلون من التحدي والاستهزاء بالموت الذي ظل مشغلا إنسانيا عبر الزمان. وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن علاقة درويش بالموت ظلت علاقة لغوية رغم الاشارات التي وردت عن تنبؤه بموته سواء في «الجدارية» أو في: «أثر الفراشة» أو في بعض قصائده الأخيرة مثل «لاعب النرد»: وأعرف أنني أمضي الى ما لست أعرف. ربما مازلت حيا في مكان ما وأعرف ما أريد سأصير يوما ما أريد وفي سياق آخر يؤكد نفس المعنى الذي يجعل علاقته بالحياة والموت علاقة مجازية: لم أكتب السطر الأخير من الوصية لم أسدّد أي دين للحياة وطار الموت بي من لغتي الى أشغاله إن هذه المسألة الوجودية التي تعالج ثنائية الحياة والموت/ الوجود، العدم أرّقت كثيرا من الشعراء ومثلت هاجسا لديهم ومصدر إلهام شعري. فقد عبّر الشاعر الفلسطيني معين بسيسو عن هذه الحيرة التي يجسمها موقفه من الحياة أمام ما يعيشه شعبه من معاناة: لماذا لم أزل حيا؟ أنا المطعون بالزيتون والعنب أساعة حائط للنار في السحب؟ أتمثال من اللّهب على قدميه قربان من الحطب؟ أم الكبش الذي تركوه للمعزى من العرب؟ كما تجلّت هذه الفكرة لدى الشاعر التونسي سليم دولة الذي عبّر عن إحساسه بالفاجعة الذاتية في ظل واقع متمزّق تلاشت فيه جميع القيم لتصبح اللغة أداة للتأسيس: لم أكن حاضرا يوم ولدت تماما كما أنني الآن لست بالكائن في هذا المكان. إلا على سبيل الاستعارة والكناية والجود الحكائي الحجائي. لم تكن جدارية درويش مناسبة رثائية ولا فرصة للحديث عن الموت باعتباره مسألة بيولوجية، بل ان خطاب الموت عبّر عن نسق جديد من الأنساق الفكرية والوجودية التي تؤسس لرؤية ملؤها التحدي وجعل الموت حافزا لحب الحياة. ورغم اعتراف درويش بجبروت الموت وسلطانه في كافة مراحل الجدارية مختصرا ذلك في فكرة واحدة (يا قوي.. أنت أقوى من نظام الطب)، فإنه لم ينفك عن مناجاته ومخاطبته بندية تكشف عن بلاغة الشاعر وانتصاره على الموت في اللغة وباللغة فالموت فعلا منتصر أبدا بحكم سلطة الطبيعة والزمن لكن الانسان استطاع أن يجعل من الفن وسيلة لمقاومته، فإذا كان أبوالعتاهية قديما قد اعتبر الموت «هادم اللذات» فإن درويش يعتبر الفن هادم الموت بما يخلده الانسان: «هزمتك يا موت الفنون جميعها».