ظلام دامس ومخيف يخيّم داخل أرجاء المخبزة... وبقايا نار مشتعلة في بعض الأركان... ودخان كثيف بدأ يخرج ويصعد إلى السماء رائحة كريهة تنبعث من كل الفجوات، باب طار من مكانه مسافة أمتار فتفرعت أضلاعه بعد سقوطه... بلور مهشم تناثرت قطعه إلى الخارج ليصل إلى الناحية الأخرى من الرصيف... وجدنا أعوان الأمن ورجال الحماية المدنية قد انتهوا من إخراج جثة شاب محترقة تماما وكهل في حالة إغماء بعد أن أصيب بحروق من الدرجة الثالثة قبل نقل ثلاثة عملة آخرين إلى مستشفى حفوز (ولاية القيروان). هذا ما أسفر عنه الانفجار والحريق اللذان جدّا بمخبزة حي الرياض بحفوز في حدود الساعة الثالثة من فجر يوم السبت الماضي. لكن الساعات اللاحقة حملت خبر وفاة الكهل متأثرا بجراحه ليصبح عدد القتلى اثنين. نسفه الفرن «الشروق» تنقلت لمواكبة جنازة الفقيد سالم المخلوفي هو شاب من مواليد 8 أكتوبر 1993 (عمره 16 سنة) فوجدنا والده حسن يبكي في صمت ومن خلال نبرات صوته الحزينة همس إلينا قائلا: لقد انقطع ابني عن الدراسة في الموسم الفارط وخيّر أن يتعلم حرفة بإحدى المخابز وكان يمنّي النفس بأن يعمل حتى يساعدنا على مصاريف العائلة بقي يتربص لمدة عام ويتقاضى عشرة دنانير في الأسبوع حتى تربص به الموت فنسفه فرن المخبزة وأكلته النار قبل أن يعود برغيف الخبز إلى أمه. الفقيد الثاني هو محمد الأخضر الكسابي من مواليد 15 ديسمبر 1957 هو كهل ذو أخلاق عالية قسّم حياته بين جديته في العمل والاعتناء بأسرته له ثلاثة بنات يدرسن في التعليم العالي وولدان في المرحلة الإعدادية عمل في المخابز لمدة ثلاثة عقود واستطاع أن يكافح في سبيل إسعاد أسرته ونجاح أبنائه... حملوه بعد الحادثة وجسده ينزف ولم يصمد كثيرا أمام خطورة حروقه التي كانت من الدرجة الثالثة فمات بعد ساعات قليلة من مكوثه في قسم الإنعاش. وجدنا بيته يعج بالمعزين الذين هبّوا من كل مكان ليحملوا جثمانه إلى مثواه الأخير بعد توديع الفقيدين تحولنا لزيارة المصابين ليصفوا لنا ليلة الرعب والفزع التي عاشوها في المخبزة بعد الانفجار. حياة ثانية أردت إنقاذ زميلي فأحرقت النار وجهي وأطرافي عماد شاب أعزب من مواليد 14 ديسمبر 1979 بحفوز اختار العمل في المخبزة لقربها من مقر سكناه وجدناه طريح الفراش يشكو من حروق واضحة على مستوى الوجه واليدين وقد عبّر لنا عن جزعه الشديد وحزنه العميق للمشهد الذي عاشه فجر السبت فقال: دوّى الانفجار وأنا بصدد عجن الخبز في الغرفة المجاورة... فارتجت الأرض من تحت قدمي والحيطان من حولي وتلاطمت بعدها ألسنة النار في كل مكان... رأيت زميليّ يحترقان أمامي... وقد تفحّم جسد أحدهما وتهاوى على الأرض. أردت أن أنقذ الآخر الذي طوقته ألسنة اللهب ولكن قوة النار وزفيرها دفعاني إلى الوراء بعد أن أصابت وجهي وأطرافي... استحال عليّ تكرار العملية فجذبني صديقي طارق لنخرج من الباب المكسّر. طارق من مواليد 13 سبتمبر 1964 متزوج وله ثلاثة أطفال التقيناه في منزله فوجدناه كئيبا من بشاعة الحادث الذي قطّع أواصر الارتباط والصداقة مع زملائه. وعن لحظة الانفجار قال طارق: لم أر في حياتي شراسة تلك النار وقوتها وسرعة سريانها... كانت أمواجها الحمراء تتلاطم مع الجدران وتحدث زفيرا كالعاصفة أمام هذا المنظر المروّع استسلمت وأعلنت الشهادة وتهيأت للموت أمام هول ما رأته عيناي... لكن رحمة الله كانت أقرب من الجفن إلى العين يأخذ من يشاء ويجدد العمر لمن يشاء... لقد سبقتنا النار فكسرت الباب وتركت لنا منفذا للخروج ليكتب لنا الله حياة ثانية. موسى من مواليد 16 نوفمبر 1991 ذكر لنا أنه لن يعود للعمل بالمخابز لأن صورة المأساة لاتزال راسخة في ذهنه... وقد دعا بالرحمة للفقيدين والشفاء للآخرين. حيرة وأمل بعد هذه الحادثة توقفت سواعد العمال عن العمل وانتابت الحيرة أفراد الأسر... هم يجهلون مصير الأيام القادمة ويبقى الرزق بيد الله عز وجل ويدركون كذلك بأن يد الرعاية ستكون قريبة منهم بحكم اهتمام السلط المحلية والجهوية بالمعوزين والمنكوبين من أبناء هذا الوطن.