دمشق الشروق: من مبعوثنا الخاص النوري الصّل: إذا كان الزمن قد أثبت في بعض الاحيان قدرته على العبث بآثار البلدان ومحوها فإن عبق الماضي سيبقى مسجلا في «دفاتر» التاريخ حاله في ذلك حال الذكريات الأخرى المخزونة في «مستودع الأفكار» ليظل شاهدا ومرجعا للأجيال المتعاقبة.. هذه حقيقة يتوقّف عندها كل من يزور بلاد الشام اليوم... فقد لا تكفيك بضعة أيّام هناك لتزور كل المواقع الاثرية والمعالم الحضارية ولكنها قد تكفي لتدرك أن الحضارة في سوريا ليست مجرّد فكرة بل هي واقع معاش وشيء جميل حيّ تراه وتلمسه وتكاد تسمع ايقاعه... باستمرار حتى يخيّل إليك وأنت تتجوّل في بلاد الشام، أنك تسمع «خطوات التاريخ»... عبر وقع حوافر خيول الرومان والمغول والعثمانيين... كأن الرحلة في دمشق شريط يروي لك أمجاد أجدادنا وبطولاتهم... وهكذا تجدك وكأنّك في نزهة في الماضي والحاضر معا فالتاريخ يتلخّص أمامك في فسحة ضيقة من الزمان والمكان وكل خطوة في شوارع دمشق وأسواقها وأزقتها تسافر بك الى «الأمس الغابر» لكن دون أن تجعلك تنسى أنك تعيش الزمن الحاضر... فلا تملك الا أن تستسلم لهذه الرحلة السحرية الاسطورية... فهذا قوس حجري روماني يشدّ في بداية الميلاد يقوم في أصله دكان صغير تباع فيه آخر المبتكرات الحديثة... وهذا خان من العهد العثماني تنشط تحت أقواسه المعقودة وزخرفته القديمة حركة البيع والشراء وهذه مشاهد المدن السورية تجعلك تتبيّن من بعيد كيف تتزاوج وتتعانق آثار الماضي مع عمارات اليوم... هذه دمشق أقدم مدن العالم تلوح فيها أقواس رومانية على معبد آرامي والى جانبها قبة ومآذن الجامع الأموي... أقدم معلم اسلامي في دمشق وعنه قال الوليد بن عبد الملك حين تم تشييده «يا أهل دمشق إنكم تفخرون على الناس بأربع... بهوائكم.. ومائكم وفاكهتكم وحماماتكم فأردت أن أزيدكم خامس هو الجامع الاموي». في قلب دمشق القديمة أيضا تستوقفك حارة باب تومة التي تقطنها غالبية مسيحية ولا تزال شوارعها وبناياتها تحافظ على النمط المعماري التركي العثماني... هنا كل شيء يوحي بأنّك وسط أغلبية مسيحية... ودمشق القديمة محاطة بسور وأبراج دفاعية وبثمانية أبواب ستة منها قديمة واثنان اسلاميان وتنتشر في ثنايا نسيجها العمراني شواهد تاريخية ومعالم أثرية... وإذا توغّلت أكثر فستكتشف أضخم القلاع وأجمل القصور والتحف والنفائس السورية المنتشرة في شكل فسيفسائي رائع «يأسر» كل زائر... ولا ينتهي سحر القلاعة عند هذا الحد... فهذه قلعة صلاح الدين الايوبي تكشف عن فيض من غموضها وسرّها الذي بقي جزءا منه الى حد الآن محل خلاف بين المؤرخين والباحثين وإذا ما جلت ببصرك أكثر فإنك ستلمح أبراج المعامل «تطاول» التاريخ وتتحدى الزمن...وتقف منتصبة وعلى أطرافها تتناثر السدود جنبا الى جنب مع القصور والآثار القديمة والمدارس والمنشآت الثقافية وبين المآذن المتناثرة على امتداد «المشهد الدمشقي» وسقوف الأسواق القديمة وقباب المدارس السلجوقية والأيوبية والمملوكية. وفي «معلولا» تلك المدينة التي «تنام» بين كتل الصخور يبدو الزمن قد توقّف لبرهة ليفسح المجال لسكّانها ليتكلّموا بلغتهم الآرامية التي لا يزالون يتوارثونها أبا عن جد... أما القرية السورية فإنها تحكي قصّة أخرى... فلكل قرية من القرى السورية طابعها المميز سواء كانت تنام وادعة في «حضن» جبل أو تشرف على واد أخضر أو تختبئ في بساتين مثمرة رائقة اللون الذي تراه في طراز بيوتها... في زخرفة أقواسها... في أشكال أبوابها ونوافذها...في لباس أهلها.. في أصناف طعامهم... وهذا التنوّع هو «كلمة السرّ» في بلد يتميّز بأنه «وحدة في تنوّع وتنوّع في وحدة»... ألسنا نتحدّث هنا أصلا عن بلد التنوّع والوحدة؟