هناك بلا شك الكثير من المعطيات والعوامل المعقدة التي يمكن أن تفسر التصويت السويسري ضد المئذنة، بعضها يتعلق بما هو سياسي سواء الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، وبالتأكيد الظرف العام الذي يتقابل فيه المتطرفان الأقليان، الأوروبي اليميني المتطرف ذو التنويعات الإسلاموفوبية والعنصرية، والإسلامي القريب من رؤى القاعدة الذي يستعدي مفهوم المواطنة أساساً. كما أن تنوع الخريطة السياسية والثقافية السويسرية يبدو ذا علاقة بتباين التصويت، وهنا تأتي دلالة تصويت أغلب الشطر السويسري الفرنسي الأكثر انفتاحا ضد العريضة، وتصويت الكانتونات الجبلية الجرمانية والإيطالية الأقل انفتاحا مع العريضة. غير أن القليل من الجدال تركز حول المخيلة الثقافية التي أفرزت التصويت السويسري، مخيلة لا يمكن قراءتها في العشريات الأخيرة زمن قدوم مهاجرين مسلمين. بدون التقليل من العامل السياسي أودّ أن أقترح هنا أننا بصدد مخيلةٍ انتقائية استنطقت المئذنة واتهمتها بماهية تعبيرية جوهرانية جامدة ولاتاريخية، لتنتهي إلى تجريمِها، ومن خلالها (تجريم) المواطنينَ السويسريين من الديانة المسلمة. إذ من يعتقد أن هذا الشغف بما يمكن أن تمثله المئذنة من «خطر» على «حرية الدين» والقيم الحداثية في سويسرا هو أمر طارئ يتعلق بوضعية خاصة بالسنين الأخيرة إنما يتجاهل معطيات قديمة، ولكن الأهم يعبر عن ازدراء لثقل المنظومات الثقافية الأكثر تعميرا وتأثيرا. نحتاج للتركيز على النص الرئيسي الذي شكل أساس الحملة التي نادت بمنع المآذن، إذ هناك نجد بيسر مفاتيح فهم الخطاب والجدال السويسريين ضد المئذنة (يمكن الاطلاع عليه في موقع www.minarets.ch). إذ أصدرت «المبادرة الفيدرالية الشعبية ضد بناء المآذن» نصاً دعائياً من صفحتين نجد فيه المحاججة التي تتم وفقها المطالبةُ بمنع المآذن. الحجة الأساسية تتمثل فيما يلي: «المئذنة هي تعبير عن الرغبة في حيازة سلطة سياسية- دينية».. ما الدلائل على ذلك؟ يتم عرض أمرين بالأساس: أولهما، التنصيص على أن المئذنة «ليست من الدين في شيء»، ثم ثانيا التركيز بشكل خاص على تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء التركي الحالي رجب طيب أردوغان سنة 1997 مستعملا تعبيرات مستعارة من شاعر عثماني: «ديمقراطيتنا ليست إلا القطار الذي نستقله لنصل إلى هدفنا. المساجد هي ثكناتنا، والمآذن هي حرابنا، والقباب خوذاتنا، والمتعبدون جنودنا». الآن، من الأيسر البدء بالمعطى الثاني. وإذا كان يجب أن نتعامل مع تصريحات أردوغان بجدية في هذا الجدال، ألا يجدر حينها الاستفتاء ليس على المآذن فحسب بل أيضاً على القباب، بل المساجد ذاتها والمتعبدين أيضاً بما أنهم جميعا أينما كانوا خاضعون بشكل ما لإرادة رئيس الوزراء التركي. من الواضح طبعا أن تصريحات مجزوءة وخارج السياق لشخص مثل أردوغان تحديدا، عرف تحولاتٍ فكرية عديدة انتهت به في موضعه الراهن والذي لا يمكن التشكيك في صدقية تمسكه بالنظام الديمقراطي التركي، هي دلالةٌ على عدم إمكانية رهن «فهم المسلمين» عامة للمئذنة من خلال كلام محدود زمانا ومكانا لشخص مسلم بالتحديد مهما علا شأنه. في المقابل، المعطى الثاني (أي «المئذنة ليست من الدين في شيء») أكثر جدية، ولو أنه لا يحيلنا ضرورةً على استنتاج «التعبير السلطوي» أو «الرغبة في الهيمنة» للمئذنة. يجب هنا التنصيص على أن الجدال السويسري ليس بالأساس حول فعل «الآذان» أو الدعوة للصلاة، إذ إن المآذن الأربع المبنية في سويسرا الآن لا تستعمل في ذلك الغرض، ولو أن النص الدعائي لحملة «المبادرة الفيدرالية» يشكك في أن ادعاء المسلمين الذين يطلبون ترخيص بناء المآذن هو خطوة لتفعيل هذه المآذن في اتجاه توظيفها لأداء الأذان. إذ من الناحية الفيلولوجية وكما برهن بعض المستشرقين منذ قرن فإن وجود ثلاثة أسماء عربية لوصف المئذنة (أي المئذنة والصومعة والمنارة) تعبير عن الطبيعة الإشكالية لوظيفة المئذنة، إذ إن هذه التسميات لم تكن تعني الشيء ذاته في النصوص المبكرة ولم تتقارب مفهومياً إلا بشكل متأخر. وعموماً، من الصعب أن تجد مختصا جديا واحدا في العمارة الإسلامية قادرا على تقديم سرد تاريخي يقيني في علاقةٍ بالمئذنة وأصولها خاصة ماهيتها التعبيرية (إذا كان هناك ماهية تعبيرية أصلاً)، مثلما هو حال السرد اليقيني المتضمن في النص الدعائي ل «المبادرة الشعبية الفيدرالية» السويسرية التي يبدو أنها مختصة في العمارة الإسلامية وماهياتها، (إذ) أكثر من باحثين سويسريين (على سبيل الذكر لا الحصر) قضوا عمرهم في هذا الاختصاص، ممتنعين عن الإدلاء بأحكام تعميمية دون التمحيص اللازم، وأذكر هنا بالتحديد الراحل عالم النقائش ماكس فان برشام والذي كتب مقالا واحدا عن المآذن طيلة حياته حرص فيه على التحذير من أي انزلاق في سرديات تاريخية يقينية (ربما في نقد ضمني لصديقه وزميله البريطاني كرزويل الذي قدم جينيولوجيا شديدة الصرامة لتاريخ المآذن في بداية مسيرته الأكاديمية، وكان يميل إلى تجاهلها لاحقا). لكن إذا كنا متيقنين من أمرٍ فيما يخص المعطيات الأثرية والتاريخية، فهي أن فعل الأذان الذي انطلق مع بناء مسجد المدينة سبق بناء المآذن بما يؤكد عدم وجود تحديد ديني يرهن فعل الأذان بوجود مئذنة. إذ إن أول المعطيات الأثرية على وجود مآذن داخل المساجد تزامنت مع «الفتوحات الإسلامية» في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي خاصة نحو الشام ومصر. وهناك فإن المؤشرات تحيلنا على استيعابٍ إسلاميٍ لعنصر معماري ما قبل إسلامي يتمثل بالأساس في صوامع دق الأجراس للكنائس (bell towers) بالأساس، وليس اختراعا معماريا إسلاميا (هناك الكثير من التكهنات حول «أصول المئذنة» بالإضافة إلى الأصل البيزنطي، غير أن أغلبها لا يزال يفتقد لمرتكزات أثرية صلبة). أفضل الأمثلة بلا شك هو أكبر وأقدم المساجد الإسلامية الموجودة، والتي بنيت تحت رعاية الخلافة الأموية في عاصمة الخلافة في دمشق، أي الجامع الأموي في دمشق بداية القرن الثامن ميلادي، والذي بني في إطار وعلى أنقاض الكنيسة البيزنطية الأساسية في دمشق واستعمل صوامعها. وبمعنى آخر إذا كانت هناك أي علاقة في هذه المرحلة المبكرة بين عقلية «الفتح» وصورة المئذنة، فهي أن استيعاب المئذنة ضمن الشكل الإمبراطوري الإسلامي للمسجد كان أحد المؤشرات العملية على سيرورة «الفتح» وليس في ذاته تعبيرا على الرغبة في «الفتح»، إذ هو تعبير عن التأثر بثقافة المغلوب المعمارية بما هي ثقافة مشهدية أرقى تستحق الاستيعاب والإدماج. بشكل متدرج، خاصة مع القرن التاسع ميلادي، ستصبح المآذن تعبيرا عن عظمة وقوة تأثير المساجد الجامعة، خاصة المبنية تحت رعاية مراكز الخلافة. وهكذا يعتقد أن مئذنة المسجد الجامع في قرطبة التي أضيفت في القرن العاشر ميلادي وبالتحديد مع قرار أمويي الأندلس إعلان الخلافة، تشير إلى تقليد مئذنة الجامع الأموي في دمشق بما يعكس الطموح الأموي الأندلسي لاتخاذ لبوس معماري في مستوى إمبراطوري. كذلك يجب النظر بنفس الطريقة لتأثير المآذن الملولبة للجامعين الأساسيين في مدينة الخلافة العباسية في القرن التاسع، أي سامراء، وكانا الجامعين الأكثر اتساعا في الفترة ما قبل الحديثة، على مئذنة جامع ابن طولون في القاهرة في نفس القرن. مرة أخرى تأثير المركز على الأطراف. المئذنتان القرطبية والقاهرية في هاتين الحالتين هما تقليد للنموذج الإمبراطوري، غير أن «تنافس المآذن» هذا لم يكن أمرا حتميا، إذ مالت الخلافة الفاطمية- الشيعية إلى تجنب بناء المآذن رغم بنائها جوامع كبيرة تحاكي طراز القلاع العسكرية في المهدية والقاهرة، ويرجع ذلك على الأرجح لنصوص شيعية تحدد مستوى الأذان في مستوى محدد. وحتى الأمثلة القليلة التي احتوت على مآذن مثل جامع الحاكم كان تموقعها في الركنين الأماميين للواجهة الخارجية، خاصة أمام البوابة ذات الطابع العسكري، وسطهما يحيل على مشهد الأبراج الركنية في القلاع العسكرية. وهكذا حتى في هذه المرحلة الإمبراطورية حيث يتم استعمال كل العناصر المعمارية في الجوامع الأميرية لتأكيد عظمة السلطة نجد أمثلة تتخلى عن المئذنة أو تستعملها في سياقات مترددة. العرب القطرية 2009-12-06