مثل كرة الثلج، بدأ الجدل يتضخّم في امريكا حول احتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية القادمة.. وبهذا تكون الادارة الامريكية الحالية التي اعطت العالم دروسا من كل الاصناف والالوان، قد اغلقت الحلقة بدرس بليغ في «الديمقراطية المصممة على المقاس» وهو ما يعيدها في ضوء سلسلة التجاوزات التي تحدثها منذ فترة بامتياز الى دولة لا تختلف في شيء عن أبأس الدول في العالم الثالث.. باسم ما سمي «الحرب على الارهاب» باشرت الادارة الامريكية منذ فترة تنفيذ اجراءات عديدة ومتنوعة للتضييق على فضاء الحريات وحقوق الانسان داخل امريكا ذاتها... وقد اصبح عاديا ان يتكلم مثقفون ومفكرون وفنانون امريكيون ويصدعوا بشكواهم من ضيق مجال الحريات الفردية تحت ذريعة «مقاومة الارهاب»... ومن ضمنهم المفكر الكبير ناعوم تشومسكي (وهو بالمناسبة يهودي ولا يمكن ان يشكك في آرائه احد ويتهمه بمعاداة السامية) الذي طلع في اكثر من برنامج تلفزيوني (رغم الحصار المضروب حوله في العديد من وسائل الاعلام الامريكية) ليؤكد بأن الامن والمخابرات الامريكية باتت طليقة اليدين منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، تؤتي التجاوزات في كل الاوقات وتنتهك الحرمات والحريات الفردية لمجرد الشبهة... ليصل به الأمر ذات حصة على احدى القنوات الاوروبية (ARTE) حد التأكيد بأن «الامريكيين يعيشون منذ ذلك التاريخ في ظل دكتاتورية تعيسة يقودها وزير العدل الامريكي).... كل هذا دون الحديث عن التجاوزات التي تؤتى ضد مواطنين من اصول عربية واسلامية وصلت شظاياها حتى الى الاطفال في المدارس. اما على الصعيد الدولي فقد جعلت «ديمقراطية الادارة الامريكية» وكذلك تشبعها باحترام الاختلاف وحقوق البشر الآخرين خاصة من العرب شعوبا عديدة ترى النجوم في عز الظهيرة.. والأمثلة عديدة في هذا الباب: في فلسطينالمحتلة، لم تكف الشعب الفلسطيني مأساته التي تتواصل منذ قرابة 6 عقود.. ولم تكفه معاناته اليومية من اجراءات القمع والتعسف الشارونية حتى تعمدت هذه الادارة تتويج شارون «رجل سلام» واعتباره جزءا مما تسميه واشنطن «حربها على الارهاب» لينطلق كالفيل في مغازة البلور يعبث بحقوق الشعب الفلسطيني ويعيث فسادا في ممتلكاته ومكتسباته وبتفنن في تمثيل ابنائه واصطياد نشطائه وتجريف منازلهم واخضاعهم لحصار اقتصادي شامل يحرمهم من ابسط ضروريات ومقوّمات الحياة... ولم يكف كل هذا حتى تعمدت إدارة بوش وفي سابقة خطيرة اطلاق يد شارون لتمزيق قرارات الشرعية الدولية تطبيقا لمقولة «من لا يملك اعطى لمن يستحق» وذلك باعطائه الضوء الاخضر لفرض حل احادي الجانب ويمكنه من الاحتفاظ بالمستوطنات التي اقامها بالقوة على ارض محتلة وفق تصنيف القرارات الاممية التي تحظى بموافقة امريكا ذاتها.. ومازال السيل متواصلا مع تلويح ادارة بوش بالفيتو لحماية اسرائىل من تبعات قرار محكمة العدل الدولية القاضي بعدم شرعية جدار الفصل العنصري وبضرورة هدمه وتعويض المتضررين منه. في العراق: عشنا نحن العرب وعاش العالم مسلسل «الالتزام» الامريكي بالشرعية الدولية وبمقتضيات القانون الدولي ورأينا «تشبعها» بقيم العدل والانصاف حين قررت غزو العراق واحتلاله بدون اي غطاء قانوني او اخلاقي ولهثا وراء مصالح اقتصادية واستراتيجية لا تخفى على احد... ومازلنا نرى «ابداعات» الاحتلال الامريكي وبهلوانياته التي حوّلته بين ليلة وضحاها الى قوات تحالف تنزل «ضيقة» على الشعب العراقي رغم اقرار الرئىس الامريكي قبل فترة بأن ما يجري احتلال وبأن ما ينفذه العراقيون من عمليات هو مقاومة مشروعة للاحتلال وانه هو الاخر يرفض ان يرى قوة اجنبية تحتل اي جزء من امريكا ويسكت.. اما اكبر الدروس فتمثل في تعمد هذه الإدارة الغارقة في الغطرسة في كل معانيها، الترويج لفكرة «نشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان» في الشرق الأوسط الكبير... وهو بالمناسبة من قبيل كلام الحق الذي يراد به باطل... لأن فاقد الشيء لا يعطيه اولا، ولأن حملات الاحتلال الغربية على مرّ القرون الماضية كانت تأتينا مغلفة في «ارقى المشاعر الانسانية» من قبيل «نشر قيم الرجل الابيض ومقاومة الجهل والفقر».. وما حكاية «نشر الديمقراطية» الحالية الا إعادة صياغة لترّهات الماضي.. ولكي يكتمل هذا المشهد السريالي فقد بدأت الإدارة الامريكية بدراسة المقترح بشأن الخطوات القانونية اللازمة لتأجيل الانتخابات الرئاسية الامريكية المقرر اجراؤها في نوفمبر القادم في حال وقوع هجوم لتنظيم «القاعدة»... والامر لن يخلو في هذه الحالة من شبح اضافي يكون له مفعول!!! أبومصعب الزرقاوي في العراق مثلا ويتخذ ذريعة لتعطيل آلية الديمقراطية الامريكية لينكشف المستور وتظهر الوجوه على حقيقتها وفق التوصيف الذي اعطاه المفكّر ناعوم تشومسكي. هل يحق لأمريكا بعد هذا ان تعطي دروسا لاحد في مجال الديمقراطية واحترام حقوق الانسان؟ وهل مازالت تطمح لأن تجد من يصغي الى اسطوانتها وهي تحدثنا عن «الشرق الأوسط الكبير» المبني على «الاصلاحات الديمقراطية والمشاركة الشعبية»؟ وأولا واخيرا، من ينقذ امريكا من هذا «الستربتيز» السياسي الداعي للشفقة والذي يجعل كلام امريكا في اتجاه وأفعالها في اتجاه معاكس والذي يجردها من بقايا مصداقية كانت تتمتع بها ايام زمان؟ اسئلة تبقى مطروحة امام ضمير امريكا، وامام كل المخدوعين مع سبق الاضمار والترصد بالاكاذيب التي تطلق جزافا حول الديمقراطية والمصممة لشق الصفوف وفتح الطريق امام طوابير الدبابات والمرابين... والذين يقف طموحهم عند تدجين شعوبنا ونهب خيراتنا.