4 من النساء.. الى المرأة: أية قضية؟ على الرغم من تعدد المسالك التي وفدت منها النساء على المشهد الروائي والمسرحي، فإن خيطا شفيفا يرسم في الأفق التساؤل عن قضية المرأة. منذ ظهرت المادية في الفكر العربي الحديث والمعاصر برزت نزعة التحرر من الموروث الديني والأخلاقي الذي هيمن على سلوك الفرد والجماعة بما كبّل المجتمع في نظر رواد الفكر وأعاقه عن التطوّر وبالتالي لا مناص للخروج من التخلف من دحض ذلك الموروث وإعلان الثورة على كل أشكال التقيّد. فالنهضة والتقدّم يتحققان انطلاقا من مبدإ تكريس الحريات. والحرية الجنسية في قناعتهم ركيزة أساسية في النضال من أجل ترسيخ ذلك المبدأ. فليست الحرية الجنسية تلك التي جسمها نساء من دور البغاء التي زار احداها يوما ما وليد رفقة صديقه الأجنبي «دار في زقاق متهافت قديم (...) وأدخلني وراءه في رواق كئيب أدى الى غرفة باهرة الضوء استلقت على مقاعدها خمس نساء او ستّ..» (ص87). وإنما هي حرية «المرأة العربية المثقفة!؟ المبدعة في الفنون والمساهمة في الأنشطة الفكرية والأدبية على اختلاف مشاربها وكأنما التثقف والابداع لا يكونان الا في حلبة المحرّمات وممارسة الخطيئة!؟ يعرض لنا المشهد الروائي أكثر من صورة لممارسة الصلة الوثيقة بين الابداع والجنس تقوم مريم الصفّار مثلا : «هو اي زوجها لا يحب ما أنا أحبّ، ولا أنا أحفل بما هو يريده من الحياة. (...) ما ذنبي ان أنا كنت جميلة، واجتذبت الرجال دون وعي منّي؟ (...) أردت ان أكتب رواية، أردت ان أدعو الى بيتي الرسامين والنحاتين والشعراء (...) أردت ان أرى مشاهير الناس في بيتي عربا وأجانب وأساتذة صحفيين، ديبلوماسيين، سياسيين». (ص207 و208). بل إنها لتسمّي الأشياء بأسمائها اذ تضيف قولها «وبقدر ما جعلت أرى عامر أو وليد مرهفا بارعا (...) جعلت أرى هشام (وهو زوجها) بليدا متكررا لا أتوقع منه إثارة...» (نفس الصفحة). أما وصال فقد صارت «تشرب الخمر بعد ان قدّم لها وليد أول كأس وسكي فتفاجأ أخاها طارق الذي يتساءل «ما هذا؟ أتشربين؟» فتجيبه «أليس فيك شيء من الشعر؟ (...) لا يا حبيبي عد الى زوجتك، وامنعها هي عمّا تريد» (ص262). وأما سوسن عبد الهادي فلعلها الأنموذج الأقرب الى الاعتدال.. جاء بشأنها على لسان كاظم ما يلي: «أعطني امرأة بهذا الجمال الهادي، وهذه الكبرياء الشامخة، وخذ عشر سنوات من عمري طالبة في كلية الملكة عالية، ويقول إنها أيضا رسامة موهوبة» (الرواية ص73). كل ذلك النمط الجديد من الحياة المتحررة التي ظهرت في أوساط النخبة العربية وتنامت بالخصوص خلال منتصف القرن الماضي بفعل هيمنة المثاقفة مع الغرب هو ما عرفته النخبة في أوروبا منذ أعلنت عن موت الكنيسة واستبدال عقيدة الرغبة واللذة بأي منزع روحاني آخر. لقد انعكس ذلك النمط على نحو لافت في الفن والأدب وفي الرواية والسينما بصفة مؤكدة والرواية العربية التي استدعت النموذج الغربي وجدت الطريق معبّدا ثم أضافت اليه تجربة المثقف المبدع الذي استوعب جيدا ثقافة الغرب وأتقن لغاته ثم تفاعل مع طريقة عيشه وتفكيره وربما تماهى معهما الى حدّ ما. فالمناخ المحفّ بحياة شخوص الرواية لم يأت من فراغ، لقد خصصنا ملحقا إطلعنا من خلاله على سيرة الروائي وانتاجه (أسماء وأضواء ص 125 وما بعدها) وفيه يتضح ان الوسط الأدبي والفن التشكيلي لم يكونا غريبين عن جبرا ولهما حضور بارز في شواغل بعض الشخوص مثلما أسلفنا كما قلت عن بطله وليد: إن نشأته «كانت بين الدين والأدب والفن» (ص32). لقد أخفقت النخبة في شخص وليد ومحيطه، خصوصا نساء «النادي الوليدي» في رفع تحدي التغريب. وبالمقابل انساقت مع موجاته: «إن النشاط الثقافي لوليد مسعود وأصحابه، كان يتجلى بفعل الرغبة في محاكاة المثقفين الغربيين. فالأنماط التعبيرية والأغراض الثقافية التي يتناولونها كان فيها كثير من الإغراء بما هو أجنبي بعيدا عما ينبع من ثقافة المجتمع وتراثه الشعبي» (ص84). وفي السياق ذاته، يرى ان المسرحية بدورها كانت «تفصح عن قضية المثقفين ومغامراتهم في أجواء الترف الفني والالتذاذ الجنسي الى حد الشبق أكثر من إبراز تبنيهم قضية الثقافة في خدمة الثورة والمعرفة. ومن ثمّ فإنها لاحت في سماء الركح كقضية مهمشة بعيدة عن طموحات الجماهير الى ثقافة شعبية حيّة وفاعلة اي رافدة من روافد الطموح الى التغيير والبحث عن المجتمع البديل» (ص83). إن قضيّة المرأة في هذا العمل الروائي / المسرحي هي الثورة على الموروث الثقافي الشامل وطرح بديل التحرر منه، عناق الحرية المطلقة من كل عرف وقيد هذا هو وعي المرأة الجديد، المنشود في الرواية ثم أضافت المسرحية فكرة «الجسد البديل» لا للأجساد الأنثوية المترهّلة التي تعيقها البدانة عن سيولة الحركة والتعبير الجسدي فجاء الأداء «... يتراوح بين الصمت والصراخ وبين الهمس وطلقات الرصاص ونعيق الغربان والإيقاع الموسيقي المتدرّج من الرقة الى الحدة ومن الرنين الى الصخب. وينعكس على التوزيع الحركي لمختلف الاعضاء يشترك في ذلك الرأس والجذع والأطراف لتشكيل لوحات تعبيرية حيّة تجمع بين الامتداد والانكماش، والانبطاح والزحف والالتواء والوقوف والجلوس والاستلقاء والارتعاش والاهتزاز والاندفاع وغير ذلك من الهيئات العجيبة المبهرة التي جعلت الأداء قيمة فنية متميّزة ورائعة في تميّزها..» (ص107). 5 المرأة والمقاومة... رمز على خط النار: إن أهم ما يميّز حضور المرأة على الركح في هذه المسرحية أنها اتخذت من «علاقات وليد مسعود النسائية أرضية صلبة في دفع الشخصيات نحو التحاور وتشكيل ملامحها في غياب الحدث الدرامي التقليدي». (ص48) هذه الارضية هي التي أتاحت مبررات الأداء الأنثوي على النحو الذي ذكرنا. «لقد انطلقت المسرحية من شخصيات مسلّم بمأسويتها وحاولت ان تعرض إفرازات هذه المأسوية مما حدا بالبعض الى التشكيك في قيمة العمل الفنية ونعته بالإبهام والإغراق في الثورية الى حدّ الغموض». (ص48) مما دفع بالبعض الى الاستياء من العرض واعتبر ان الفرقة لم تقدّم شيئا (سوى ضخامة الديكور وطرافته ولوحات التعبير الجسدي الأنثوي» (ص49). غير ان عملا فنيا أدبيا متكاملا، مثل هذا، ينهل فكره من وعي النخبة لا يمكن في الواقع الا ان يتجه نحو جمهور نخبوي. وقد ورد في هذا السياق ما يلي: «لا ننسى أن العمل ليس من قبيل الصنف الجاهز وأن الكتابة والتصميم وتوزيع الأداء تم بأناة مفرطة لا يمكن ان تقابل إلا بقراءة متأنية، قد لا يمتلك المشاهد مفرداتها للوهلة الأولى (...) وإذا كان مدار الأحداث ينحصر في أوساط الأدباء والموظفين ورجال الأعمال والمثقفين والفنانين وعلاقاتهم بالقضية، فمن الطبيعي ان تفرز مناخا نخبويا (...) وأن تتجه نحو جمهور بالدرجة الأولى له نفس الاهتمامات والشواغل والخلفيات» (ص49). أما حضور المرأة في الرواية كرمز فإنه يحيلنا على ما وراء قضية الجنس: «ورغم ما تعجّ به الرواية من صور جنسية صارخة وأدب مكشوف مقرف حيث كان ذلك موقفا أدبيا ثابتا عند الكاتب من مشكلات الدين والمحافظة والتراث ومن قضايا الثورة والمقاومة والحرية، فإن ذلك كله كان يصبّ في المحور الأساسي للرواية الذي يدور حول هذه القضايا» (ص84). ومن ثم فإن تلك الصور المعبّرة عن ذلك الموقف ترتقي الى مستوى الرمز تماما مثل صور المطر والصخرة والكهف وغيرها.. «فالمرأة هي الحياة التي يريد وليد ان يمتلكها بكل قواها ويطوّع أقدارها لمشيئته» (ص84). والمرأة ايضا ترمز الى سرّ الوجود الذي يعطي تلك الحياة معنى اي الحرية «تتجرد وصال من أنوثتها وإنسانيتها لتسمو بذاتها وتبلغ مستوى «القيمة /الرمز» الحرية التي ينشدها الانسان ويبحث عن اقتلاعها تحقيقا لذاته» (ص85). لكن ما قيمة الحياة ومعناها ان لم يكن للإنسان وطن مستقل وأرض يمارس على أديمها الحياة والحرية؟ «أما ريمه فهي معادلة الارض السلبية والسيادة السجينة، وكم عدد الذين يهتمون بحق لمأساتها؟» (ص85). ومما جاء في تقدير رمزيتها: «أما ريمه فهي ريم أو الظبي القافز في فضاء الصحراء إنها الوطن الضارب بجذوره في عمق الزمن لكنه لا ينعم بحريته الآن تماما مثل الظبي الذي عقلته فقمعته. ان المارستان لا يكاد يعبّر عن شيء سوى المعتقلات والسجون الاسرائيلية» (ص96). وأما حضور المرأة في المسرحية كرمز هو امتداد لما في الرواية. «(..) إن علاقاته النسائية لم تكن بمنأى عن جوهر القضية في الرواية وهي «الاختفاء / البحث» وهو ما يبرّر الى حدّ ما تركيز المسرحية على هذه العلاقات وجعلها محور البناء. وبذلك ليست برج الحمام تناولا جانبيا او اضافيا لمشكلة «وليد مسعود» بقدر ما هي وجه آخر ترتسم فيه ملامح تلك المشكلة وتتجلى من خلالها القضايا والمحاور الموجودة في النص الروائي. ولكن ليس إلا بالقدر الذي يسمح به الركح والعرض المسرحي ككل». (ص91). وما يعنينا في هذا السياق رمزية المرأة من خلال الرواية كما ذكرنا فالحياة والحرية والأرض هي أبعاد هذه الرمزية بما هي صمّام المقاومة. كما ان الممارسة الجنسية بما هي نشوة وألم وجنون تختزل رمز المعاناة في النضال لأداء تلك المقاومة وانجاز الثورة المنشودة.