تقلب صفحات كتبها وتمسك بأقلامها الملونة تخط على صفحات كراساتها عبارات الشوق لمدرستها بعد أن غيبها العجز بسبب المرض. من حولها في غرفتها بحي الصحابي3 (القيروان) صديقاتها يمسحن عن خديها دموعها ويروين لها ما فاتها من دروس أساتذتها ومرح الفسحة وموكب تحية العلم... فترد على عطفهم بابتسامات ممزوجة باختلاجات الشوق والألم ثم تعهد إليهن بتحية إلى أساتذتها وتعدهن بلقاء قريب... كذلك هي أيام الطفلة وداد البريكي (15 سنة) تلميذة السنة الثامنة أساسي المرسمة بإعدادية دار الأمان بالقيروان تقضيها بين تدفق الشوق إلى طاولتها وأساتذتها وساحة اللعب وبين أسفها على مآل دراستها تتقلب على نار ألم فتك بطفولتها ويتربص بمستقبلها الدراسي متجاهلا نبوغها وشهائد الامتياز التي جمعتها. كان حلم الطفلة (وداد) كبيرا واجتهادها في دراستها محمودا غير أن المرض غيبها عن دراستها إذ قعدت عن الحركة حد ملازمة الفراش ومنعها عجزها حتى عن رفع رأسها والنظر عبر النافذة لتطالع ضوءا في المنعطف أو لاستقبال صديقات يقتطفن لها أخبار المدرسة وقصصا طفولية تثير الفضول. عجز الطفولة عرفت وداد طعم الألم قبل حليب الرضاعة ورافق المرض طفولتها يتطفل على براءتها تستمد الأمل من قصص المطالعة التي تهواها ومن أفلام الكرتون تحدثنا عن «بياض الثلج» و«ذات الرداء الأحمر» دون أن تنسى «الأميرة النائمة» وفارس أحلامها. ما تشكو منه وداد هو العجز عن الوقوف وعن الحركة بسبب انزلاق غضروفي على مستوى فقرات العمود الفقري ممّا أدى إلى التهاب الفقرات وصعوبة في المشي والحركة قبل أن تتعكر حالتها الصحية وتنتقل إلى مرحلة العجز بسبب عدم توفر الرعاية الكافية والعلاج البلسم. منذ ولادتها، تجرعت وداد الأوجاع ومرارة الألم في صمت وقد ضاعفه بطء العلاج حتى انتقلت من صعوبة الحركة وحمل المحفظة إلى العجز عن الوقوف بعد أن انحنى ظهرها كأنها عجوز في التسعين. نحيلة الجسم هزيلة عسيرة الحركة، بين المستشفيات الجهوية وزعت أملها في العلاج وبذل معها أكثر من طبيب جهده وخبرته وتفحصتها آخر ما توفر بالمستشفيات من أجهزة متطورة لإعادة البسمة إلى عينيها الحالمتين غير أن العلاج لم يهتد إلى الأمل ممّا جعلها تلتمس العلاج في مدن أخرى متكبدة عناء السفر الذي لا تطيقه وعناء الانقطاع عن الدراسة.. وتكاليف العلاج. في السنوات السابقة، كانت وداد تتغيب عن حصص الدراسة لحضور حصص العلاج لكن هذا العام حظها من الدراسة توقف فجأة بعد أن أصبحت «مقعدة» عن التحرك نحو مدرستها رفقة رميلاتها علما أنها وجدت في مدرستها من أساتذتها ما تستحق مجتهدة مثلها من الرعاية. أيامها الدراسية كانت معدودة قبل أن تسقط بعد أن عجز جسدها عن رفع ثقل أحلامها وتلهفها في معانقة طاولتها فتضاعف ألمها وانكفأت على نفسها تكفكف والدتها دموعها بدموع الرأفة والدعاء. لم يكن الوالدان يعلمان بما تشكو منه ابنتهما إلا في مرحلة متأخرة من العلاج لكن هذا التأخر رافقه تأخر آخر بسبب عدم انتظام الرعاية وعجز الوالدين عن متابعة علاج ابنتهما وما يتطلبه من متابعة وذكرت الوالدة نعيمة أن عدم اكتمال العلاج تسببت فيها عدة عوامل منها الظروف الاجتماعية وما يتطلبه العلاج من نفقات ومصاريف تنقل نحو مدن أخرى علاوة على عدم تمتع العائلة بدفتر علاج حسب قول الوالدة رغم تمتع وداد ببطاقة معوق قد تضمن لها بعض الامتيازات... كرسي متحرك اليوم انقطعت وداد عن الدراسة مكرهة تسرح ذاكرتها بين أروقة مدرستها تبحث في زواياها عن بعض الذكريات وسبب انقطاع وداد عن الدراسة هو وبكل بساطة عدم توفر كرسي متحرك يبدو أنها لا تستحقه كحالة اجتماعية فراحت تفتش في محفظة والدها عن ثمنه دون جدوى فأسلمت جسدها لليأس يسحب رغبتها الجامحة في الدراسة إلى فراش المرض عوض طاولة الدرس. قد لا تشعر بمرضها وأنت تتبعها في خفاء أو أنت تحدثها فلا تسمع منها همسا ولا شكوى في نظراتها صمت الألم تهزمه تارة ويقهر طفولتها تارة أخرى. ما تطلبه وداد هو العودة إلى الدراسة بعد شوق الكرسي المتحرك على بساطته استحال حلما عسير المنال في حضرة التبرير الإداري وأصبح على بساطته أبعد منالا من العلاج المكلف. يئست وداد من الحصول على هذا الكرسي من الجهات الرسمية أي الجهات المعنية بالشؤون الاجتماعية بسبب وجاهة المبررات الإدارية تجاه وضع أسرتها الاجتماعي حسب ملاحظة المرشدة الاجتماعية بيد أن ظاهر الأمور حرم وداد من حلمها بعد أن حرمها من تلقي العلاج. أمل وبسمة ولأن وداد لم تستنفد أملها فإنها تتجه بمناشدتها إلى كل من يعنيه حلمها ومستقبلها الدراسي بعيدا عن أحكام الإدارة وهي على يقين بأن هناك من يسمع همسها ويستقرئ معاناتها ويهمه أمرها.. آملة أن يتوفر لها الكرسي المتحرك الآلي لتجدد لقاءها مع مدرستها... وعناقها لصديقاتها ومدرسيها. قالت وداد كل ذلك بحركات عينيها وسكنات شفاهها هامسة في سرها أنها على ثقة بتحسن الحال ولا شك في ذلك فهي في عهد يرعى الأمل وينمي الحلم ويزرع البسمة.