استقبل القارئ العربي بنوع من الحفاوة الروايات التي اهتمت بالأحياء الكبرى واحتفت بها إذ حظيت الروايات التي اهتمت بحي السيدة زينب أو القاهرةالجديدة وغيرهما من الأحياء باهتمام خاص وتندرج الرواية الجديدة لبن الحاج نصر في هذا الصنف الروائي الذي خاضه الكاتب في مناسبات سابقة وتمرس به... انخرط هذا العمل في روايات الأحياء الكبرى التي صارت محورا هاما في تجربة كاتبه والتي تتوغل في الأحياء التاريخية وتفتش خباياها وتلتقط من فضاءاتها ووجوهها وحكاياتها ما يستطيبه الخيال الروائي... فبعد رواية قنديل باب المدينة والتي اهتمت بجانب من أحياء العاصمة وساحة الطرميل التي اهتمت بقفصة جاءت هذه الرواية التي انصب اهتمامها على حي باب سويقة وهو حي هام في الذاكرة التونسية إذ ارتبط بالعديد من الأحداث السياسية والاجتماعية في تونس ولكن بالحاج نصر لا يقدم أعمالا وصفية أو تارخية تصف هذه الأحياء أو تؤرخ لها وإنما يقدمها في إطار سردي يغلب عليه الخيال الروائي فتكون هذه الأماكن مجرد فضاء تدور فيه هذه الأحداث وتؤثر فيها بمناخاتها التاريخية فقط. إن الرواية تصبح رسما للمكان وهي بذلك تلتحم بالتاريخ والواقع وقد ارتبط الأمر هذه المرة بفترة هامة من التاريخ التونسي المعاصر إلا وهي فترة الصراع النقابي الحكومي في الثمانينات ولكن على عكس ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من كون هذه الرواية ستتعقب تفاصيل هذه الأحداث وتتعمق فيها فإن الكاتب يحدث نوعا من المفاجأة وينأى عن هذا الموضوع الساخن الذي نجد حوله مجرد إشارات متفرقة ويصبح مجرد جو عام ليس إلا فالأحداث الروائية ترى المكان والأحداث من زوايا أخرى حتى تحقق أدبيتها وتبتعد عن الكتابة التاريخية ولعل هذا التوجه يكشف لنا أن واقعية بالحاج نصر ليست تسجيلية إنما تحليلية تستوعب الأحداث وتخفي مواقفها بين ثناياها.. إنها روايات مكتظة بالمواقف والرؤى وهذا ما نعثر عليه بعمق في هذه الرواية ولعل التوغل في عالم الشخصيات يعد أيسر سبيل لفهم هذه الرواية والنفاد إلى دلالاتها المتنوعة. 1 نماذج من الشخصيات: تعددت الشخصيات في هذه الرواية وتنوعت وتشابكت وخاضت صراعات روائية متعددة ولم تلتق فيها إلا جزئيا لكن هذا لا يخفي الترابط التاريخي والسردي بين هذه الشخصيات فالصراعات متواترة ومترابطة وتكمل بعضها وهي تقدم لوحة متكاملة عن مجتمع في فترة ما امتاز بحساسية خاصة وحملت علامات تأزم اقتصادي وتنقسم الشخصيات إلى نوعين أما النوع الأول فهو الطبقة الميسورة التي تعيش الترف والأحلام الناعمة وتتمتع بما وفره لها الوضع وأما النوع الثاني فهو الفئة المهمشة الكادحة الباحثة عن لقمة عيش بمختلف الأشكال والمقيدة بظروف عويصة إلا أنها تبقى راسخة في ذهن القارئ عديد الشخصيات المحورية في هذا العمل ومن أهمها: أ) محفوظ الرحماني: عرفه الراوي في البداية قائلا «صحافي محترف أشرف على التقاعد بعد أن حمي الوطيس بينه وبين العلاني صاحب الجريدة لأسباب تراكمت عبر الزمن بعضها حول الشكل والأسلوب وبعضها حول الأجر والحوافز وبعضها حول المبادئ والمواقف (ص12). يوصف محفوظ من طرف منصور الغول بأنه منافق وكذاب ويبدو شخصية متقلبة فهو يدس السم في الدسم يكتب عن الرخاء والإنجازات والمكاسب ويزرع الفتنة داخل الكلمات كل ما يكتبه مشكوك في نزاهته وهو القدير على استخدام الجناس والاستعارة والبلاغة والسهل الممتنع... يقرأه السياسيون المستعجلون دائما فيقتنعون بأنه منهم وإليهم وكثيرا ما تلقى مكالمات هاتفية من بعض الوزراء يمتدحون أسلوبه الراقي في سرد الأحداث والأخبار وشدة وطنيته وغيرته على النظام ويقرأ كتاباته عامة الناس وأصناف المثقفين والمتعلمون فيبدون له إعجابهم الشديد بمواقفه الرجولية من الأوضاع السائدة عبر نقده الذي يكشف المستور (ص17). ويبدو محفوظ شخصية متراجعة إلى الوراء حيث يتدحرج مهنيا من رئيس تحرير إلى مكلف بالأرشيف وهو ما أفقده رغبة العمل كما تدحرجت علاقاته من مجالسة الشخصيات إلى العزلة التي يكاد لا يفكها إلا عباس الباجي النقابي السابق الذي رحل بدوره أو شفيق النفق فتى الشوارع. هل الأمر مجرد تطور سردي أم أن الكاتب يحيلنا على تراجع الصحفي الحقيقي الذي فقد مكانته في المؤسسات الصحفية وعوضه أصحاب المواقف الضعيفة والدخلاء أو ليس الأمر إحالة على تراجع مكانة الصحفي الاجتماعية وعلى القيود التي فرضت عليه في تلك الفترة خصوصا وقد اشتكى محفوظ مرارا من الصعوبات.