نتفاجأ عند وفاتهم حتى ولو كان العمر قرناً، كل مرة أتساءل عن جدوى الكتابة عمن يرحل، لكنني أكتب وكأنني أريد أن أتشارك ما عرفته عن الراحلين مع من أشاركهم نهاية أسابيعي. رحل المفكر الكبير كلود ليفي ستراوس، استسلم لنداء الموت الذي طالما درسه، وفك طلاسمه المتُشْكِلة على الإنسانية على مر العصور. ولد كلود ليفي ستراوس سنة 1908 ببروكسيل، من أب فنان ورسام اسمه رايمون ليفي ستراوس. ناضل في صفوف الحزب الاشتراكي ما بين سنتي 24 و1925. وبعدما حصل على دبلوم في القانون، أعد دبلوم دراساته العليا في الفلسفة حول موضوع «المسلمات الفلسفية للمادية التاريخية»، قبل أن يصير مبرزًا في الفلسفة غير أن النظريات المجردة الاعتباطية البعيدة عن الواقع الاجتماعي، لم تحقق آماله في المعرفة الإنسانية، وفي بداية الثلاثينات وقع في يده كتاب مهم لروبير لووي «المجتمع البدائي» فتح أمامه عالم الإثنولوجيا، وهو علم الأعراق البشرية، تتمثل غايته الاولى في تحليل الفوارق وتأويلها، وفي نفس الفترة دعاه سيليستان بوغليه مدير المدرسة العليا للأساتذة بساو باولو ليدرس العلوم الإجتماعية في البرازيل، وليتعرف على حياة هنود البورورو وغيرهم من هنود الأمازون، وقد خصص دراسات كثيرة عن الأنتروبولوجيا البنيوية، والفكر البدائي أو البري الذي هو في نظره شكل من أشكال الفكر ويتواجد في ذات كل واحد منا، ودرس أيضاً اللغة والرموز والأساطير وبنيات القرابة. ومن نظريات ستراوس أن بنية المجتمعات الغربية وتنظيمها صنعت لكي تتغير، في حين أن المجتمعات التي تسمى بالبدائية صنعت من قبل أعضائها لكي تدوم، فإنفتاحها على الخارج محصور جداً، وما نسميه «ذهنية الحنين إلى مسقط الرأس» يسيطر عليها، ويعتبر غريباً حتى الجار القريب، لكن البنية الإجتماعية تتميز لديهم بلحمة متراصة، ومحيط أغنى مما نجده في الحضارات المركبة، فلا شيء متروك للصدفة في تلك المجتمعات. بحيث أن المبدأ المزدوج الذي يجعل لكل شيء موضعًا، ويحتّم على كل شيء أن يكون في موضعه، يهيمن على كل الحياة الأخلاقية والاجتماعية. وهو يفسر أيضًا كيف أن بعض المجتمعات ذات المستوى التقني الاقتصادي المتدني جدًا تستطيع أن توفر لنفسها مشاعر الارتياح والغبطة، وكيف أن كلاً منها تعتقد أنها توفر لأعضائها الحياة الوحيدة التي تستحق عناء العيش. ولعلّها بذلك تقدم لأبنائها قسطًا أكبر من السعادة. ولكن بما أن هذه السعادة تزعم الكمال لنفسها، فإن كل شكل من أشكالها يظل معزولاً لا محالة عن الأشكال الأخرى، فيتثبّت ويتجمّد من حيث المبدأ. لا توجد ولا يمكن ان توجد حضارة عالمية بالمعنى الدقيق للكلمة، لان الحضارة تفترض تواجد ثقافات متنوعة للغاية، بل هي تتمثل في هذا التواجد نفسه. ولا يمكن للحضارة العالمية أن تكون إلا تحالفًا، على الصعيد العالمي، بين ثقافات تحافظ كل واحدة منها على طابعها الخاص. ويعتبر كلود ليفي ابو البنيوية في مجال علم الإجتماع، كما برز في مجال بنيوية علم النفس ميشيل فوكو وجاك لاكان، و يعد فردينان دي سوسير رائد البنيوية اللغوية.وقد طور ليفي البنيوية بأن وظفها في التحليل الأنتروبولوجي والإثنولوجي، بعد أن أخذ مبادئها من اللغوي جاكوبسون، والذي هرب معه في الأربعينات إلى أمريكا أثناء حكم فيشي وعند عودته لفرنسا شغل في المدرسة العليا كرسي الأديان المقارنة للشعوب التي لا تعرف الكتابة،وأسس مجلة مهمة مازالت تصدر إلى اليوم «مجلة الإنسان». تعرف الكثير من المثقفين على كلود ليفي من خلال كتابه « مدارات حزينة «، كذلك طلب منه جون مالوري صاحب كتاب «المجتمع البدائي» أن يكتب نصاً حول سفره وإقامته، قدمه بعد أربعة أشهر في كتاب جميل شكل قطيعة كاملة مع ما كتب من قبل عن الأسفار والرحلات، بعنوان « غروب الشمس « تميز بجمالية أسلوبية رائعة، وبمعرفة أكيدة، كتابة ذاتية عن سفر في المكان والزمان، وقد تأسفت لجنة غونكور عندما قرأت الكتاب أنه ليس بالرواية وإلا لمنحته الجائزة. شخصياً عندما قرأت مدارات ستراوس شعرت بنوع من الإستفزاز في تقييمه للشعوب، وموقفه القاسي من الإسلام ومن العرب. في مقابل اللطف والتسامح الشامل للبوذية والرغبة المسيحية في الحوار، ففي رأيه أن اللاتسامح الإسلامي يتبنى شكلاً لا واعيا لدى أتباعه. فهم يَبْدُون عاجزين عن تحمّل وجود آخَرين باعتبارهم آخَرين لهم ديانة أخرى ومعتقد آخر. الوسيلة الوحيدة بالنسبة لهم للاحتماء من الشكّ والإهانة تتجلى في «عملية إفناء» الآخرين،. ويذهب ستراوس إلى درجة مقارنة جمود الإسلام بجمود فرنسا العاجزة عن تجاوز عظمة الحقبة النابوليونية. ويقول أيضا «المشكلة التي يعاني منها الإسلام تتجلى في التفكير في العزلة. فالحياة، بالنسبة للإسلام، هي قبل كل شيء الجماعةُ، والموتُ يستقر دائما في إطار جماعة، محرومة من كل مُساهم». وبالرغم من كون الحقيقة سليلة بعض فقراته، غير أنه ظل رهين النظرة الكولونيالية الضيقة. سواء تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، (في حديثه عن البرقع أثناء زيارته لكشمير والبنجاب والباكستان) أو بفرنسا، التي فرضت وصاية (بقوة الحديد والنار) على كثير من شعوب الأرض لزمن معين.. رحل الرجل بعدما اخترق قرنا بأكمله، وقد صرح بمناسبة ميلاده التسعين، وهو غير متحمس إلى الاحتفال به، مادام نوعا من الاقتراب من القبر، بأنه يستحضر الكاتب الفرنسي أناتول فرانس الذي قال يوما بأنه كان من الأجدر أن يكون مجرى الحياة بالمقلوب، أن نولد شيوخا وأن ننحدر تدريجيا في العمر، ما قد يمنح له متعة وقيمة أكبر.