لا أدري إن كانت الخيول العربيّة التي تصنع أمجاد مضامير السباق الفرنسيّة معنيّة هي أيضًا بالمناظرة العامّة التي انطلقت يوم 2 نوفمبر 2009 والتي دعا إليها السيد إريك بيسون وزير الهويّة الوطنيّة والهجرة في فرنسا بهدف الإجابة عن السؤال التالي: ما معنى أن تكون فرنسيًّا؟ والحقّ أنّ للاستعارة الحيوانيّة حضورًا لافتًا في جدل الهويّة على امتداد القرن العشرين. نعثر عليها لدى وول سوينكا في ردّه على سيزار وسنغور حين دافعا عن مفهوم «الزنوجة» فأطلق عبارته الشهيرة: «إنّ النمر لا يعلن عن نِمْرِيَّتِهِ بل يهجم على فريسته». كما نعثر عليها لدى أمين معلوف في كتابه «الهويّات القاتلة» حين شبّه الهويّةَ بالفهد الذي « يقتل إذا طاردناه ويقتل إذا تركناه طليقاً والأسوأ أن نتركه في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه». مضيفًا أنّنا نستطيع «ترويضه»...دون أن يقول لنا إن كان يبقى من «فَهْديّتهِ» شيء بعد ذلك. المشكلة أنّ هذه الخيول «ذات الأصول العربيّة» كما يقولون «هناك»، تفرنست بما يكفي دون شكّ، لتفهم وربّما لتتبنّى أفكارًا مثل تلك التي أطلقها بلوخ حين دعا إلى «أن نكون أبناء زمننا قبل أن نكون أبناء آبائنا»، أو تلك التي أطلقها فيالات حين أكّد أن «لا دور للفنّ كلّه وللحضارة كلّها إلاّ أن نعرف كيف نختار أسلافنا». أفكار لاشكّ أنّ خيولنا «المهاجرة» تمنّت رؤيتها مغروسة في بلادها «الأصليّة»، لتدلّ على أنّ العرب فهموا هم أيضًا أنّ الهويّة ليست وَصْفَةً ولا يمكن فرضُها بقانون ولا يجوز احتكارها إيديولوجيًّا ومن الخطر اختزالها في الماضي أو في المقارنة مع الآخر الأجنبيّ الغريب. بل هي سيرورة وتفاعل ورصيد لا يُورث بقدر ما يتمّ إنتاجه واكتسابُه وتنميته يوميًّا من خلال العيش معًا في المدينة وفي العالم. وكلّ جدل يعود بها من مرحلة المُواطَنة إلى مرحلة العبيد والرعايا والعنصر والقبيلة، هو طريق إلى العنصريّة والإقصاء والتطرّف والعنف، واعتراف بأنّ الفكر الحداثيّ ينهزم أمام يمينه. والحقّ أنّ أهميّة سؤال الهويّة لا يمكن أن تفوت خيولنا المهاجرة. فهي تعرف أنّ طرحَه في فرنسا في التوقيت الراهن تحديدًا لا يخلو من شبهة الصيد في مياه اليمين الانتخابيّة العكرة. وهي تعرف أنّ شرط الإنسان مؤسّس في جانب منه على الرغبة في أن يعرف من هو. لكنّها لا تفهم: لماذا يتمّ احتكار هذا الحقّ؟ ما الذي يجعل الذاكرة من حقّ المستعمِر والنسيان من واجب المستعمَرات؟ ما الذي يجعل احتفاء الغرب بمقاوميه وفاءً للمقاومة، واحتفاء الشرق بمقاوميه تمجيدًا للإرهاب؟ ما الذي يجعل سؤال الهويّة حلالاً عليهم حرامًا علينا؟ وهنا أحد «مَرابِط الفرس» فلا شكّ أنّ الخيول المذكورة أعلاه تتساءل الآن إن كانت مطالَبَةً هي أيضًا بحفظ «المارساييز» والإدلاء بما يثبت هويّتها الوطنيّة، هذا إن لم يكن عليها أن تصهل بالفرنسيّة لتثبت انتماءها إلى فرنسا. لكن لتطمئنّ، ولتضعْ في بطونها بطّيخًا صيفيًّا على امتداد الفصول الأربعة. فهي الحيوانات «المُرَوَّضَة» بامتياز. ولن يطالبها أحد بالخروج من قشرتها. والأغلب على الظنّ أنّها لو فعلت ذلك ولو تغيّرت حقًّا، أي لو فقدت ما هي به خيول عربيّة أصيلة، لفقدت كلّ مبرّرات وجودها هناك، فهي لم تصبح محلّ ترحاب إلاّ بسبب ما تتميّز به من سمات من شأنها إثراء سمات «شعب الخيول» في «وطنها الجديد». ثمّ إنّها لا تطلق صفيرًا في الملاعب عند أداء النشيد الوطنيّ ولا تخرج في مظاهرات للمطالبة بحقّها في الحياة. ولماذا تفعل وهي مُعزّزة مُكرّمة؟ لا يفعل ذلك إلاّ من كان مُطالَبًا بحبّ بلاده دون أن يشعر بأنّ بلاده تحبّه. أي ضحايا ما أسمّيه «حبّ البلاد من طرف واحد»، وهو مرض مزمن نعرفهُ نحن العرب من المحيط إلى الخليج معرفةً جيّدة. وهنا مربط الفرس الثاني. فمقاطعة النشيد الوطنيّ الفرنسيّ بالتصفير، وما يُرادفه على الضفّة المقابلة من مراهنة على قوارب الموت، ليسا نتاج تهافُت الإحساس بالهويّة الوطنيّة، بل هو صرخة وجع ورفض صادرة عن شباب يشترك في المعاناة نفسها من تهميش وبطالة وفقر وقهر، ولا يجد أذنًا صاغية، فيحاول لفت النظر مستعملاً الفضيحة كأداة اتّصال. ولو قُدّر للخيول أن تصبح على وعي بالواقع نفسه لفعلت الأمر نفسه. أي لرفعت عقيرتها بما يمكن أن نسمّيه «صهيل الهويّة» وهو يعود بروح القبيلة من بوّابة اليأس أو الكلَبيّة السياسيّة، لا فرق في ذلك بين الخيول المهاجرة من زمن عنترة وزميلتها القادمة من زمن فارسانجيتوريكس.