«وأخيرا... وُلدت حكومة الوفاق الوطني»... بهذه الكلمات افتتح رئيس الوزراء اللبناني الجديد سعد الحريري خطابه الذي أعقب إعلان تشكيل الحكومة التي رأت النور بعد نحو خمسة أشهر من المخاض. ويبدو ان الحريري الذي خاض جولات من المفاوضات المضنية بين مختلف الأطراف المكوّنة للساحة السياسية اللبنانية استشعر بعد هذه الأشهر الطويلة والانتظار المرير انه أدرك غاية ما كان ينتظر وأنه وصل الى نهاية الطريق لكن الحقيقة انه لم ينجز سوى خطوة واحدة ضرورية، على درب طويل ومليء بالأشواك والعقبات لأن الأصعب من مجرد إعلان «حكومة وحدة» هو الاتفاق على برنامج عمل موحد يعكس حالة التوافق التي هرول اليها البعض راضيا وانقاد إليها البعض الآخر على مضض.. فهل سيصمد الحريري في وجه العاصفة التي تنتظر حكومته، والتي لا تقل حدة وعنفا عن العواصف السابقة التي هبّت على لبنان؟ بداية اجمع محللون على ان الحكومة اللبنانية الجديدة هي حكومة وحدة بالشكل فقط بسبب حدة الانقسام السياسي بين الخصوم المشاركة وأعربوا عن خشيتهم من ان تكون هذه الحكومة أرضية جديدة للخلافات بين فريقي الموالاة والمعارضة. ولاشك ان هذه التقديرات تنطوي على جانب كبير من الصحة فالتوصل الى هذه الصيغة التوافقية لا يعني إنهاء الخلافات بين الفرقاء بل يعني بالضرورة تنازلات قدمها الحريري وفريق الأكثرية من أجل دفع الأمور الى الأمام لأنه ليس من مصلحة أحد أن تستمرّ حالة تعطيل تشكيل الحكومة وقد عاش لبنان من قبل فراغا حكوميا ورئاسيا، ووصل به الامر الى شفا الحرب الأهلية. ولا شك ايضا ان هذه التنازلات التي اضطرّ الحريري الى القيام بها خلال عملية تشكيل الحكومة تتنزّل في إطار خشية فريقه من تجدد المواجهات الدامية التي جرت في ماي 2008 وأدّت الى سيطرة «حزب الله» عسكريا على العاصمة بيروت، وهذا يعني عمليا ان لاشيء يحدث دون موافقة «حزب الله» الذي يحصل على ما يريد بفضل سلاحه وفق رؤية مدير المركز اللبناني للدراسات السياسية أسامة صفا... وقد حصل «حزب الله» وفريق المعارضة من ورائه على ما أراد فعلا وينتظر ان يكون وزنه فاعلا في الحكومة الجديدة التي ستشهد جلساتها المقبلة مشادات بسبب التباين الكبير في وجهات النظر بين أعضائها. ثم إن هذه الحكومة التي أطلق عليها البعض «حكومة الخندقين» وُلدت في جو متأزم داخليا وإقليميا بدا ذلك جليا على امتداد الأشهر الخمسة التي استغرقها تشكيلها وهي اليوم أمام استحقاقات جسيمة يخشى ان تؤدي الى انهيارها فالمنطقة تتجه نحو عدم استقرار سياسي وأمني واللبنانيون يعلمون قبل غيرهم ان بلدهم يمثل ساحة للمواجهات الاقليمية فلا غرابة ان نستمع في جلسات الحكومة الجديدة الى نفس تلك النبرة من الاتهامات المتبادلة بالعمل لمصلحة قوى خارجية وتنفيذ أجندات يتم إملاؤها من الخارج على هذا الفريق أو ذاك. ثم إن اي حكومة ائتلافية تقتضي ان تكون أطرافها متفقة على الأقل على البرنامج. اما في الحالة اللبنانية، فقد مضت خمسة أشهر والفرقاء يختصمون ويتنازعون على الحقائب الوزارية ولم يبد في مواقفهم اي توافق على اي ملف وهذا يؤكد ان الحكومة الجديدة ستواجه صعوبات جمّة في معالجة الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل ما يتعلق بمناحي الحياة اللبنانية. وهذا ينبئ أيضا باستحالة الاتفاق على برنامج موحد لهذه الحكومة التي رأى فيها البعض «حكومة لا وحدة». ثم لا ننسى ان ولادة هذه الحكومة ما كانت لتتم على هذا الشكل لولا المناخات الايجابية التي طبعت علاقات الشريكين الاقليميين لفريقي الموالاة والمعارضة (السعودية وسوريا) وما شهدته من تقارب وهذا يعني ان استمرار الأجواء الايجابية في لبنان مرهون برعاية مستمرة من دمشق والرياض، وقد نبّهت صحيفة «السفير» اللبنانية القريبة من المعارضة الى دقة المهمة التي تنتظر الحريري وتعقيداتها حين كتبت «اذا كان الحريري يفترض انه باندفاعه وبالدعم وبالإجماع اللبناني والعربي والدولي حوله سيجد سجادة حمراء تنتظر طريقه الى السرايا فإن ما رافق التكليف والتأليف من مفاوضات ومقايضات جعله يخوض اختبارا سياسيا صعبا ومكلفا». والثابت ان الاختبارات المطروحة على طاولة الحريري ستكون أشد تعقيدا وصعوبة من تجربة تشكيل «حكومة وحدة» في بلد التعدد والتنوّع.