لا يخفى على أحد، أن الأمّة عرفت القهقرى... قهقرى... في جميع مجالات المنافسة الحضارية التي يمكن ان تكون بين الأمم... لا، بل إن أمّتنا العربية ازدادت تخلّفا، وقد عرفنا الآن جزءا من السبب... من خلال مقابلتي كرة القدم بين الجزائر ومصر، الأولى في القاهرة السبت الماضي والثانية التي شهدتها العاصمة السودانية مساء الاربعاء المنقضي... مقابلة السبت الفارط، والتي تابعت مؤشراتها وتداعياتها واحتقان الجماهير حولها، من القاهرة حيث كنت هناك، لم تكن لا فاصلة ولا حاسمة، بل إنها ووفق النتيجة التي أسفرت عنها التسعون دقيقة، فتحت أبواب جهنّم على الجميع... ما الذي يحدث لنا، في هذا الزمن الرديء، والذي يزداد رداءة كلّما تواصل «الجدل» حول كرة القدم؟ كان يجب ان يُدق اسفين «بين مصر والجزائر، حتى يفرح الأعداء وأوّلهم الصهاينة... فيا شماتتهم فينا... منذ أكثر من خمسين عاما، كانت الثورة تتلحّف بالثورة... وكان النيل مزهوّا وهو يعانق جبال «الأوراسي»... فلا الجبال ملّت مياه النيل ولا النيل قال يكفي من «القربى». كان لابد للاسفين أن يدقّ، بين المشرق العربي والمغرب العربي، حتى تكون الضربة قاصمة للقضية المركزية، قضية فلسطين، التي عاودت الرباط بين المشرق والمغرب في أكثر من مناسبة... كرة القدم... هذا الأفيون الجديد... للتخلّف دلالات... وللقهقرى علامات... وفي القاهرةوالخرطوموالجزائر، رأينا مشاهد لا تسرّ سوى الأعداء... هاجت الجماهير... ودخلت مجموعات ومجموعات في هستيريا... جعلت منها (أي الجماهير) كتلة خارجة، حتى عن توصيف دافيد رايسمان، عندما يتعرّض الى بسيكولوجيا الجماعة أو المجموعة La psychologie de la foule... كرة القدم... هذا الأفيون الجديد... إذ لم يكفنا نحن العرب، «إمعانا» في التخلّف عن كل محطات التاريخ الحديث، التي مكّنت شعوبا وأمما كانت بالأمس القريب مثلنا أو أدنى منّا تعليما وتطوّرا... بل واصلنا «الإمعان» في تجسيد التخلّف في أجلى مظاهره ومعانيه... فهذه طائرات عسكرية تنقل مشجعي «كرة القدم»، فبدت فلول الجماعات تزمجر... وتتوعد...وكأنها تتوجه الى بغداد او فلسطين ترفع عنهما ضيم مستعمر غاصب... او تقي شعبيهما من جريمة حرب مؤكدة... وهذه قرارات سياسية تؤخذ في أعلى مستوى لكي يوضع على ذمة «المشجعين» جسر جوّي ينقل الجميع الى الخرطوم دون دفع مليم واحد بالنسبة الى راكبي الطائرات العسكرية ولا بخصوص الذين امتطوا الطائرات المدنية..! الجميع يشحن.. والجميع يحتقن... ويدخل في هستيريا من الغضب والانتقام والرهان: «كرة قدم» جعلها من ابتدعها، لعبة تنافسية رياضية فإذا بها تتحول عند العرب الى وسيلة انتقام وبغضاء بين الشقيق والشقيق. كرة القدم... هذا الأفيون الجديد فحين غابت القضية... وأفلتت الفكرة... وتراجع الاجتهاد... وقلت الدوافع.. حدث ما حدث في مصر والجزائر والسودان... حين كان الاخوة «الأعداء» يستلّ كل سيفه ليوقع بأخيه، من أجل لفّة تدحرجها الاقدام كانت «اسرائيل» بالمرصاد في غزة... غارات عسكرية على غزة في الظلام... في الليل الدامس... حين كانت الشاشات العربية «تتشام»... بل وفي بعض الاحيان كانت العبارات ميّالة الى مزيد الامعان في الاقليمية التي قتلتنا... وقتلت... قتلانا. ثانية كانت الفضائيات.. والقصور الرئاسية.. والوزارات.. والصحف كلها تجسّد الزمن الرديء... الزمن الذي تخجل فيه من عروبتك... وذلك حين تتحول من هذه القنوات وتطوي تلك الصفحات العربية، وتحُلّ مشاهدا على قنوات أوروبا، تجد ان أوروبا توحدت... برئيس... أوروبا اختارت رئيسا واحدا لها... في حين دخلنا نحن ومن جديد «حرب البسوس» من بوّابة «الفيفا» FIFA... فأي زمن هذا... وأي عقل عربي يمكن الحديث عنه... والى أين نحن سائرون؟.. فإلى حلقة أخرى من خيباتنا المتجددة... وانكساراتنا التي لا تنتهي...