بقلم: محمد الغزي (1) بمتعة كبيرة شاهدت شريط «This is it» الذي صوّر مختلف «البروفات» الموسيقية التي قام بها مايكل جاكسون قبل موته. إن الذي يشدّ انتباه المتفرّج، في كل لقطات الشريط، هو رقص مايكل جاكسون، فهذا الرجل كان يهفو، في كلّ رقصاته، الى الانفصال عن الأرض، والانتصار على جاذبيتها، والذهاب بعيدا، لكأن صوتا ما، لا نسمعه، يدعوه الى الارتفاع عاليا، لكأن هناك قمة يبصرها، من دوننا، ويريد بلوغها. لهذا يدق جسده، في كل رقصة ويشف، تتحول يداه الى جناحين كبيرين، ويختفي وراء الضباب كطائر أسطوري. لكنّ هذا الطائر الأسطوري يتبدّى، كلما هبط الى الأرض، ثقيلا، مرتبكا، متعثرا، غير متماسك، فقد تعلم أن يحلق لا أن يمشي فهو شبيه طائر بودلير الذي منعه جناحاه الكبيران من السّير فوق ا لأرض. لعلّ الرّقص كان حيلة الرجل للانتصار على جسده الذي كان مصدر شقائه، ففي سنة 1984 أصيب بحروق في وجهه جعلته يدمن العقاقير المسكّنة للألم، والتي كانت سبب موته، وأصيب، بعد ذلك، بمرض «الذّئبة الحمراء»، ثم بمرض البهاق ثم بمرض العظام الذي كان يعجزه، مرّات عديدة، عن الحركة، لهذا كان يخامرنا الاحساس، مع كل رقصة يرقصها أنه طرح عنه جسده، كما يطرح الثوب، ومضى خفيفا الى تلك القمة التي لا نراها. (2) تقرأ من جديد كتاب «ألف ليلة وليلة»، ومن جديد تكتشف أن الدخول في هذه الخرافات دخول في فردوس من فراديس اللغة، فهذا النوع السرديّ ما فتئ يستعير من فراديس الجنان صوره ورموزه حيث لا لون إلا الخضرة ولانساء الا الحورُ العينُ، ولا لغة إلاّ الشعر، هكذا تكتمل كل مقومات المتعة، وتستقر عن طريق اللغة كل شرائطها، وهكذا يتبدّى الراوي حارسَ تلك المتعة الوفي، يسعى من خلال لعبة السّرد الى استمرارها، مثله، في ذلك، مثل لاعب الدّمى يجتذب خيوطها حينا ويرخيها حينا آخر، يرسلها على سجيّتها مرة ويكبح جماحها مرة أخرى. كل ذلك من أجل استدامة حالة المتعة التي هي في أصل جوهرها طارئة عابرة. أما عبارة «كان يا ما كان، كان في قديم الزمان» فهي المفتاح السحري الذي يتيح للقاصّ العربي أن يفتح كل الأبواب، ويلج كل الحجرات، وخاصة تلك الحجرات التي أمعنت المؤسّسة الاجتماعية والأخلاقية في غلقها ترفّعا أو تعفّفا أو بحثا عن سلامة موهومة. قد توهمنا عبارة «كان يا ما كان، كان في قديم الزمان، بالإحالة على الزمن، لكنها في الواقع تستبعده، بل تتجاوزه بل تلغيه، فحكايات ألف ليلة وليلة تنزع دائما الى التحرّر من القيود الزمنية لتجعل أحداثها تدور في فراغ زمني هو عالم الممكن المطلق. كما أنها تجنح دوما الى الانفصال عن المكان ليصبح اللامكان هو الاطار الذي يتحرّك فيه أبطالها. (3) يذهب «أوسكار وايلد» الى أن الأدب لا يتشبّه بالحياة وإنما الحياة هي التي تصبو الى التشبّه بالأدب وتسعى الى احتذائه، لهذا نفى هذا الكاتب أن تكون الطبيعة هي الأم العظيمة التي حملتنا في بطنها، فهي في نظره ليست والدة الانسان وإنما هي وليدته «فالنّاس مثلا يرون ضباب لندن، لا لأنه موجود، ولكن لأن الفن، وعلى وجه الخصوص الشعر والرسم هما اللذان صنعاه.. ولعل الضباب كان هناك منذ الأزل ولعلّ أحدا لم يره، ولم يعلم عنه شيئا على الاطلاق، حتى جاء الفن فاخترعه اختراعا». فنحن، بهذا المعنى لا نصافح العالم مباشرة، ولا نتملّى فيه دون وسائط، وإنما نبصره من خلال حجب كثيفة من النصوص والرموز، أي من خلال ثقافتنا فالطبيعة ليست صانعة الانسان وإنما هي صنيعته. (4) لا تتغنّ بالغابة بل كن شجرة فيها. وراء كل قصيدة قصيدة أخرى مسودتها غص في البحر