خلع الدارسون على ابن الفارض الشاعر الصوفي الشهير ألقابا عديدة منها «سلطان العُشّاق« و«إمام المحبّينَ»، و«حجّة أهل الوحدة وحامل لواء الشعراء» وكلّ هذه الألقاب هي مما استلهمه الدارسون من قصائده التي وصف فيها أحواله ومنازلاته ومواجيده، ونريد من جهتنا، أن نُضيف إليه لقبا آخر كان قد أشار إليه مرّات عديدة في قصائده وهو «الشاعر الرّاقص». فابن الفارض كان من المتصوّفة الذين لم يقتصروا على الكلمة الشاعرة ليفصحوا عن ولههم وشدّة وجدهم، وإنما توسّلوا أيضا بالحركة الراقصة ليقولوا من خلالها كوامن وجدهم ولطيف منازلاتهم، والرقص لدى المتصوّفة على علاقة وشيجة بطقس السّماع والسماع موصول، عندهم، بالذكر، وإنشاد الشعر والموسيقى والرقص والتصفيق، وكلها وسائل استخدمها هؤلاء كلما طرقتهم الحال وسطا عليهم الوجد. والسّماع، كما ذكر جودت نصر، نوعان: سماع، متحرّك وآخر ساكن، أما السماع المتحرّك فهو الذي يفضي بالصوفي الى الرقص والتواجد، والجذب، وأما السّماع الساكن فهو الذي يجعل الصوفي في حال دهش واستغراق فلا يضطرب ولا يرقص. وابن الفارض من الواجدين المتحركين ذكر ولده أنه كثيرا ما كان يرى أباه يرقص رقصا طويلا ويتواجد وجدا عظيما حتى يتحدّر منه عرق كثير يسيل تحت قدميه، وربما خرّ على الأرض واضطرب اضطرابا عظيما. وفي رواية أخرى قال ان أباه كان ماشيا ذات يوم في السوق بالقاهرة فمرّ على جماعة يضربون النواقيس ويغنّون فلما سمعهم رقص رقصا كثيرا وسط السوق ورقصت جماعة كثيرة من المارّين في الطريق وتواجد الناس الى أن سقط أكثرهم على الأرض. لقد أدمن ابن الفارض الرقص فكان يتعاطاه في خلوته حينا، وبين الناس حينا آخر بل ربما كان أهل التصوف في القاهرة يدعونه الى مجالسهم ليتواجد ويستدرج الحاضرين الى التواجد، فالرقص كان بالنسبة الى ابن الفارض تعبيرا عن حالة تقصر اللغة عن التعبير عنها بل ربما تحول الى عتبة لاحتضان المطلق ومعانقة الغيب. جاء في «التعرّف لمذهب التصوّف»: النغمة قوت الروح، فإذا ظفر الروح بقوته أشرف على مقامه، وأعرض عن تدبير الجسم فظهر من المستمع الاضطراب والحركة» وهذا يعني أن الرقص موصول بالروح، بعنفوانها، بقوة وارداتها، أما الجسد فليس إلا مرآة نقرأ على صفحته أحوالها، أعني أحوال الروح. وابن الفارض من الشعراء القلائل الذين احتفوا في ثقافتنا العربية الاسلامية بالرقص وعدوه لغة ألطف من اللغة الصوتية وأبعد إشارة. وقد كان شاعرنا يساير اتجاها في التصوف يذهب الى أن مشاهدات القلوب، ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق لذا وجب البحث عن لغات أخرى تكون أقدر على النطق بعلم الأحوال فكان الرقص من بين اللغات التي أهاب بها المتصوفة ليتداركوا عن طريقها عجز اللغة الصوتية وقصورها. ومن أهمّ القصائد التي ألمّ فيها الشاعر بوظيفة الرقص الروحية تائيته. ففي هذه القصيدة العجيبة وصف ابن الفارض نفسه بالرضيع الذي إن ضاق عليه قماطه نَاغَتْهُ أمّه فنسي ما يعانيه من ضيق واهتزّ طربا، كذلك هم الواجدون فكلّما توالت عليهم الخطوب أقبلوا على السماع الذي يفضي بهم الى الرقص فتنتشي أرواحهم وتهمّ أجسادهم بالطيران شوقا الى الملإ الأعلى (انظر تحليل القصيدة في شعر ابن الفارض لجودة نصر). لكن السّماع عند المتصوفة لا يقتصر على سماع موسيقى الانسان فحسب وإنما يتجاوزه الى سماع موسيقى الأكوان، يقول أبو عثمان المغربي «مَنْ لَمْ يَسْمع من الطيور ومن صرير الباب وصفيق الرياح فهو مفتر، مدّع»، وقد كان ابن الفارض من المقبلين على هذه الموسيقى الكونية تستهويه حركة أمواج البحر، ويطربه عزيف الرياح في جبل المقطّم مثلما جاء في العديد من شهادات معاصريه. لمزيد من التوسّع انظر شعر ابن الفارض لعاطف جودة نصر