[email protected] إتصل بي هذه الايام من مدينة الكاف صديق أبعدتني عنه شواغل الدنيا ففرحت كثيرا خاصة لما أعلمني أنه يستعد ذلك الصباح للقدوم الى العاصمة فاتفقنا على تناول قهوتنا سويّة بشارع الحبيب بورقيبة ووعدته بالانتظار. غير أني فوجئت به يتصل بي بعد ساعة ونصفها ليعلمني انه جالس بالمقهى وحيدا ينتظرني وأنا لا أزال انذاك داخل سيارة الاجرة الواقفة بلا حراك في زحام العاصمة. لقد صدمت حقيقة لأني واجهت لأول مرة صورة حيّة من واقع مرير تعودت به حتى صرت أخاله قدرا محتوما. لقد صدمت وأحسست ان كل شيء تهاوى فكيف يصل الى العاصمة قبلي من هو آت من بعيد وأنا داخلها معطل غير قادر على قضاء شؤوني بها. ثم مددت نظري الى طوابير السيارات الواقفة أمامي وكلها تحمل أناسا مرتبطين بمواعيد وبساعات عمل ومعرضين كل لحظة تأخر لملاحظات واستجوابات وعقوبات بالطرد إذا ما اشتد الزحام. غريب جدا أن لا نفكر حتى اليوم في ايجاد حل جذري لهذه المعضلة بعد ان تبين ان القناطر والأنفاق عاجزة عن حلّها. لقد قضت أزمة الزحام على كل أشكال الابداع فالمرء منا ينهض ناشطا كل صباح مستعدا لأي مجهود مهما كان غير أنه وبعد خوض معركة الزحام يتراجع عن كل أحلامه الصباحية ويفكر جديا في تناول بعض الأقراص المهدئة والعودة الى الفرش. إن الخروج من البيت الى العمل صار بمثابة الرحلة الشاقة او الغزوة أحيانا التي لا نعلم عن عواقبها شيئا فمن الممكن أن نصل الى العمل بأمان كما يمكن ان ندخل في تشابك باللفظ او بالأيدي مع مجهولين مظلومين مثلنا ويمكن ايضا وفي اطار التنوع دائما ان تختفي سيارات العديدين منا بعد ان يمر أمامها «الشنقال» فندفع له أجرة يومين من رواتبنا ونعود خائبين. لقد طغى علينا الزحام وأصابتنا العدوى فصرنا متلعثمين ومزدحمين ومهرولين في كل شيء فلا طعم للأكل ولا طعم للوقوف ولا طعم للكلمات والكل يجري أو ينادي أو يصيح... والحلول أمامنا واضحة: فلا القناطر ولا المعابر ولا الانفاق تحل الزحام طالما لا تزال المؤسسات والوزارات والمصانع والمحاكم والكليات والشركات والمكاتب كلها داخل العاصمة... لقد حان الوقت للتفكير في عاصمة ثانية تقسم الزحام نصفين وتنهيه الى الأبد مثلما فعلت عديد البلدان قبلنا وهذا الحل أقل كلفة بكثير من عديد الحلول الوقتية التي لا تزيد المسألة تعقيدا. أما صديقي القادم من الكاف فقد انتظرني طويلا ثم غادر المقهى.