... أمطار غزيرة في غير فصل الشتاء الى حدّ الفيضانات .. شمس حارقة في غير فصل الصيف الى حد الجفاف .. انحباس الأمطار في عز الشتاء لأسابيع متتالية .. تراجع خصوبة بعض الأراضي وانجرافها واندثار لبعض الأصناف من النباتات والحيوانات البرية ... جملة من المظاهر المناخية والطبيعية بدأ الخبراء في وصفها منذ حوالي 20 عاما ب «الجديدة» والناجمة عن تغيرات «أصابت» الكرة الأرضية ويحاولون هذه الأيام ايجاد مزيد من الحلول لها في قمة «كوبنهاغن» ... .. مظاهر لم تغب عن بلادنا وأحس بها التونسيون في السنوات الأخيرة من خلال ما يحصل بين الحين والآخر من فيضانات جراء أمطار الخريف او الربيع، ومن خلال الحرارة غير العادية التي تميز بعض ايام الصيف والخريف، اضافة الى ما قد يعانيه الفلاحون أحيانا من انحباس غير عادي للأمطار في فصل الشتاء .. فهل لهذه المظاهر علاقة فعلا بالتغيرات المناخية ؟ أم بأسباب أخرى ؟ وماذا ينتظر أراضينا وثرواتنا المائية والبيئية ومناخنا في المستقبل ؟ هل سيتواصل التغير ام يمكن الحد منه؟ يرى السيد جميل الحجري أستاذ علم المناخ والجغرافيا بالجامعة التونسية أن الجفاف والأمطار الغزيرة وندرة المياه ببعض جهات البلاد ظواهر طبيعية موجودة ببلادنا منذ قديم الزمان ولا يمكن ربطها بنسبة كبيرة بما يعرف ب «التغيرات المناخية» ... وحتى بالنسبة للسنوات القادمة فانه لا يمكن الجزم بتواصل هذه المظاهر سواء في تونس أو في العالم حسب رأيه، مضيفا ان كل ما وقع التوصل اليه الى حد الآن مجرد استقراءات مبنية على ما حصل في السنوات السابقة .. غير انه حسب الأستاذ الحجري فانه يجب في كل الحالات الاحتياط من كل الاحتمالات الممكنة في المستقبل خصوصا ان ظاهرة التحضر (Urbanisme) مازالت متواصلة والتي من نتائجها كثرة البناءات وتراجع المناطق الخضراء وكثرة الإقبال على الماء والتدخل الجائر في الأراضي الفلاحية بما قد يحوّلها الى مناطق جدباء حتى وان كانت في شمال البلاد.. أمطار غزيرة .. وجفاف شأنه شأن بقية مناخات دول المتوسط، فان المناخ التونسي يغلب عليه التقلب الطبيعي منذ قديم الزمان وليس فقط في السنوات الأخيرة .. فمثلا شهدت بلادنا جفافا ضاريا في الأربعينات، اضافة الى سنوات اخرى عجاف بسبب قلة الأمطار وهو ما أثر بشكل ملحوظ على المواسم الفلاحية في تلك السنوات، وضرب الأستاذ جميل الحجري مثالا آخر وهو المتعلق بغزارة الأمطار في الخريف أو الربيع وانحباسها في فصل الشتاء.. فهذه الظاهرة ليست بجديدة عنّا، إذ عاش آباؤنا وأجدادنا طوال القرن الماضي سنوات تميزت بالتهاطل الشديد للأمطار سواء في الخريف أو الشتاء أو الربيع، ويتواصل ذلك أحيانا مدة شهر كامل بلا انقطاع.. كما كانوا أيضا شهود عيان على انحباس الأمطار أحيانا لمدة شهر طوال فصل الشتاء، وعانوا آنذاك (خاصة الفلاحين) من الجفاف ومن تراجع محاصيلهم الزراعية ومن صعوبات في توفير الغذاء.. وبالتالي فإن مثل هذه الظواهر ليست بجديدة علينا. تفاوت مائي على صعيد آخر، تتميّز البلاد التونسية حسب السيد جميل الحجري منذ قديم الزمان بالتفاوت الملحوظ بين جهاتها في الامكانات المائية.. فالمناطق الشمالية فائضة مائيا ومناطق الوسط أقل منها ومناطق الجنوب تعاني من الندرة.. وهذا طبيعي وعادي وتفطن له الانسان القديم وتوصل الى حلول لإيصال الماء من المناطق الفائضة الى الناقصة، فكانت مثلا «الحنايا» لنقل الماء من زغوان الى العاصمة، وكانت فسقية الأغالبة اضافة الى القنوات الأخرى التي يعود عهدها الى زمن الرومان في تونس. وواصل الانسان الحديث التمشي نفسه وشهدت تونس العصرية مثلا قنال وادي مجردة لإيصال الماء من الشمال الى مناطق الوسط والجنوب، كما شهدت أيضا إقامة السدود الكبرى في المناطق الشمالية للغاية نفسها إضافة الى تقنية البحيرات الجبلية التي أعطت أكلها حتى في مناطق الوسط والجنوب.. ووقع التوصل مؤخرا الى تقنية المياه المعالجة لتغطية بعض النقائص في الماء خاصة في الاستعمال الفلاحي وأيضا الى تقنية الري قطرة قطرة. وحسب الأستاذ جميل الحجري فإن تجربة تونس في هذا المجال رائدة ويحتذى بها ولا بد أن تتواصل هذه التقنيات مع تقدم السنين لمجابهة هذه الفوارق المائية لأنها طبيعية ومتواصلة مادامت الطبيعة متواصلة وقد لا يجوز الحديث عن تأثير التغيرات المناخية في هذا المجال. 2030 حسب الخبراء فإن التوازن المائي بين الجهات الذي تمّ تحقيقه في تونس بفضل التقنيات المذكورة سيتواصل الى سنة 2030.. لكن منذ هذا التاريخ سيختل التوازن حتما ليس بفعل التغيرات المناخية ولكن بفعل كثرة الطلب على الماء وعدم التوازن بين المتاح المائي والحاجة إليه خاصة في القطاع الفلاحي.. لذلك يجب الانتباه لهذا التحول المنتظر في بلادنا سنة 2030 في مجال المياه والاستعداد له من الآن، علما وأن التحول لن يهم فقط الناحية الكمية بل النوعية أيضا في ظل الملوحة المنتظرة للماء في باطن الأرض. مسؤولية الانسان صحيح أن ظاهرة الأمطار الغزيرة تعرفها بلادنا منذ قديم الزمان، لكن رغم ذلك لم تكن لهذه الأمطار فاعلية تذكر من حيث التسبب في الفيضانات. فالفيضانات وفق ما ذهب اليه الأستاذ الحجري غير مرتبطة بغزارة الأمطار، لأن التوازن الطبيعي العادي يسمح للأرض وللبحار باستيعاب كل مياه الأمطار التي تنزل فوقها.. ولكنها مرتبطة أساسا بالتحويرات التي أدخلها الانسان على الأرض والبحار والبحيرات الطبيعية.. فالبناء في مناطق تجمع الماء وفي مجاري الأودية والافراط في تعبيد مساحات أرضية شاسعة وتغطئتها بالاسمنت وبالمباني وغيرها، وردم البحيرات وجانب من البحار والأودية كلها أعمال أدّت إلى كثرة الفيضانات في بلادنا خاصة بعد كل تهاطل غزير للأمطار، وهو تهاطل طبيعي وعادي بلغة الطبيعة لكنه سيبدو حتما غير عادي واستثنائي للإنسان عندما يتسبّب في فيضانات. حرارة البنايات مثلما يتسبّب في كثرة الفيضانات، فإن اتساع التحضر (كثرة البنايات) سيؤثر حتما على ارتفاع الحرارة.. ويضرب الأستاذ الحجري مثال محطة الرصد الجوي وقيس الحرارة بمدينة الكاف والتي كانت قبل سنوات غير محاطة بالبنايات لكنها اليوم أصبحت تحيط بها البنايات من الجهات الأربع، واتضح ان ذلك جعل من الحرارة التي نقيسها في السنوات الأخيرة أرفع من حرارة السنوات الماضية.. ولو تواصل بقاؤها خارج المدينة لحصل العكس.. وينضاف عنصر كثرة البنايات إلى عنصر التلوث بأنواعه ليزيد في تفاقم ارتفاع الحرارة.. فأصبح الانسان يحس بحرارة أرفع.. لكن حسب ما قاله الأستاذ الحجري فإن الجزم بين تسبب هذه العناصر (البنايات التلوث) وارتفاع الحرارة غير ثابت.. فما لاحظه العلماء هو فقط ارتفاع بدرجة أو بدرجتين في الحرارة بين الفترة من 1931 إلى 1960 وبين الفترة من 1961 إلى 1990 ثم لاحظوا ارتفاعا طفيفا آخر منذ 1990 إلى الآن.. لكن هل سيتواصل الأمر كذلك في السنوات القادمة.. ذلك ما يبقى غير متأكد ورهين ما سيقوم به الإنسان من تدخلات أخرى على الطبيعة.. إذ قد يتواصل تدخله الجائر وقد يتوقف أو يقلّ، وقد يتوصل إلى تقنيات أخرى تعيد التوازن إلى الطبيعة. تصحر في الشمال تحدث الأستاذ الحجري عن خطر آخر يهدّد الأرض في المستقبل وهو التصحر بالفهوم الفلاحي.. فالتصحر لا يعني زحف رمال الصحراء على التربة بل يعني في رأي الخبراء تحوّل أرض من خصبة إلى جدباء وذلك بسبب الاستغلال المفرط لها في الفلاحة فتصبح بمثابة الصحراء لا تنتج شيئا مهما استعملنا من أسمدة وتقنيات ومياه.. وهذا الخطر يهدّد حتى بعض مناطق الشمال والشمال الغربي في المستقبل، وبالتالي لا يمكن ربطه هو الآخر بالتغيرات المناخية بل سيبقى رهين مدى تدخل الانسان في النشاط الفلاحي.. هذا الأمر لا يهم على حدّ قول الأستاذ الحجري النشاط الفلاحي فحسب.. فكل ما سيطرأ من تغيرات على المناخ وعلى الطبيعة في المستقبل يبقى رهين مدى تدخّل الإنسان، ولا يمكن الجزم بأن ارتفاع درجة الحرارة على الأرض سيتواصل أو بأن الأمطار ستزداد غزارة أو بأن الموارد المائية ستنعدم على الأرض أو بأن الأراضي الخصبة والمساحات الخضراء ستتراجع أو بأن الانتاج الفلاحي سيقل أو بأن الأمراض الإنسانية والحيوانية والنباتية ستكثر أو بأن مستوى سطح البحر سيرتفع.. فما من شيء سيتغير من كل هذا (أو على الأقل سيتوقف التغير عند هذا الحدّ) لو يتوقف تدخل الإنسان الجائر على الطبيعة عند هذا الحدّ. فاضل الطياشي أهمّ التغيرات المناخية المنتظرة في تونس حسب دراسة أعدتها وزارة البيئة والتنمية المستديمة، حول التأقلم مع التغيرات المناخية بتونس، فإن بلادنا ستشهد في قادم السنوات (في غضون سنة 2020) تغيرات عديدة منها خاصة: ارتفاع الحرارة ب0.8 درجة في مناطق الشمال والشمال الغربي والوطن القبلي وب1.3 درجة في الجنوب الغربي وأقصى الجنوب وب1 درجة في المناطق الممتدة بين الشمال الغربي والجنوب الشرقي. تقلص معدلات الأمطار السنوية سنة 2020 ب5٪ في الشمال و8٪ في الوطن القبلي والشمال الشرقي و10٪ في أقصى الجنوب.. وفي سنة 2050 سيبلغ التقلص 10٪ بالشمال الغربي و30٪ بأقصى الجنوب. ارتفاع مستوى سطح البحر ب50صم سنة 2100 مما يسبّب انجرافا بحريا بالمناطق المنخفضة على غرار سباخ خليج الحمامات والوطن القبلي وأجزاء من شواطئ بحيرتي اشكل وغار الملح وبجزر قرقنة وجربة والكنائس، إضافة إلى تقدم البحر نحو اليابسة خاصة بالأراضي الساحلية شديدة الانخفاض مثل دلتا وادي مجردة (2600 هك مهدّدة بالانجراف ونقص الخصوبة) وسباخ الوطن القبلي (10 سباخ تمسح 730 هك) وخليج الحمامات (1900 هك مهددة خاصة بسبخة سيدي خليفة وسبخة حلق المنجل) وازدياد عدد الجزر في أرخبيل قرقنة وتعرض منطقتي رأس الرمل وبين الوديان بجزيرة جربة (3400 هك) إلى الانجراف البحري. وستؤدي مختلف هذه التغيرات حسب الدراسة المذكورة إلى عدة نتائج سلبية مثل تراجع الانتاج الفلاحي وتقلص الأراضي الفلاحية إضافة إلى عدم تأقلم بعض الأنشطة الفلاحية مع الظواهر المنتظرة وتأثر الموارد الطبيعية الساحلية والتنوع البيولوجي البحري وتأثر المنشآت الساحلية..