بقلم : نور الدين صمود في بداية حياتي الأدبية وفي أيام الدراسة، عُرفتُ في الأوساط التلمذية بأني شاعر قبل أن أكون شاعرا حقيقيا أو قبل أن أكتب شعرا صحيحا، وكنت آنذك أصاحب مَن عُرف بالأدب والشعر من شباب ذلك الوقت الذين استمر بعضهم في الكتابة شعرا ونثرا مثل إبراهيم شبوح الشاذلي وزوكار ومنور صمادح ، وفي ذلك الوقت شاركت في تأسيس رابطة القلم الجديد، مع المذكورين الثانيين منهم، ومع سواهما مثل علي شلفوح ورشيد الذوادي من التونسيين، وكرام محمد كرام والجنيدي خليفة ومحمد العيد الخطراوي من الجزائر أيام كان الجزائريون كانوا يأتون إلى تونس زرافات ووحدانا، ليدرسوا في جامع الزيتونة مقاطعة منهم للتعليم الذي يشرف عليه الاستعمار، وقد استمر بعض من عرفتهم آنذاك في الكتابة الأدبية ومعاشرة الكتاب، وتخلى بعضهم الآخر عن الأدب وحوَّل وجهتَه إلى الميدان الذي يتلاءم مع ميوله، وما زلت أحتفظ بذكريات مع بعض منهم، ولم أزل أعثر بين الحين والآخر على رسائل من بعض أصدقاء الأمس القديم تعيدني إلى تلك الأيام الخوالي، ومن بين تلك الوثائق النادرة رسالة تلقيتها من الصديق القديم المتجدد العالم الأستاذ إبراهيم شبوح في تاريخها الذي تحمله، فقد راسلته في بداية العطلة الصيفية لتلك السنة طالبا منه أن يقترح علي الكتب والدواوين التي عساها تأخذ بيدي في درب الشعر الطويل، لمعرفتي بسعة اطلاعه ولثقتي بذوقه الأدبي السليم ولسبقه في كتابة الشعر الجيد، فأجابني بالرسالة التالية التي يعتذر في بدايتها عن تأخيره في الرد على رسالتي ويبين سببه: (القيروان 24 جوان 1954 صديقي نور الدين، تحياتي وبعد فأنا جِدُّ متلجلج، لم أدر كيف أعتذر لك عن هذا الإبطاء في الرد حسبي اعترافي هذا كاشفا براءة الشعور فاتحا لك أغلاقه. الحَرُّ عندنا شديد شديد، وأنا أصرف الزمان صرف الفقهاء، أحقق النصوص البالية القديمة، على كتب تُميت الذوق وتأتي على الحس فلا يكون، ولست أدري ما يجذبني لهذه الطرق الطامسة وفيها الحتف والفناء، كل ما أدري أني منجذب برغمي، فلأماشيه حتى نهاية الشوط المجهول وفي فمي هذا النشيد: وإنَّ الذي يسعى لغير نهايةٍ لَمُنْغَمِسٌ في لجة الفاقة الكبرَى(*) فيا وُفِّقتُ للنهاية سألتني أن أصف لك أصول الأدب، فشكرا لك على ثقتك بي إنّ أنجع الوسائل حسب تجاربي في إقامة الذوق البلاغي، مُدارسةُ شعراءٍ وكتابٍ يُعدُّون بحق أساطين الأدب ومعجزة العربية، وَفَّقوا بين معاني الباطن المحتدمة في صراعها الدائم مع الواقع الخارجي وبعثوا في لغتهم هذا الرفيف وهذه الحياة فجاء أدبهم غضا مِخْصابا. هو أدب الإنسان لا تحده الحدود، وقد أدرك ناقدٌ عظيم من أئمة العربية هذا اللون من أدبنا الذي انصرفنا عنه إلى أدب القوالب والجمود هذا الناقد هو أبو الحسن حازم القرطاجني الذي يقول: «وجب أن تكون أعرقُ المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علْقتُه بأغراض الإنسان» (1) وأنا لو خُيِّرتُ لاخترتُ من شعراء العربية أبا الطيب المتنبي فشعره مأساة العظمة، ولصاحبتُ ابن الرومي الذي عاش تجربة عصره خَساسةً وهَوْلا لأرى كيف: طار قوم بِخِفّة الوزن حتَّى لَحِِقوا خِفَّة بقابِ العُقابِ(**) ورسا الراجحون من جِلة النْنَاسِ، رُسُوَّ الجبالِ فوق الهضابِ جِيَفٌ أنْتنتْ فأضحتْ على اللجْجَةِ، والدرُّ تحتها في حِجابِ ولَعرفتُ ابن زيدون، فهو مركز تتلاقَى فيه تيارات الأندلس الرقيقة المرهفة بجزالة الجاحظ وصُوَر أبي الطيب وتبسيط أبي الفرج وهناك عنصر آخرُ لإفاقة الذوق البلاغي نستطيع أن نتلمَّسَه في (بيان) الجاحظ وأخبار الأصفهاني وخُطب الإمام (***) هذا وليس العسير يا صديقي أن نعرف ما نقرأ ولكنه في علمنا كيف نقرأ، ذلك أمرٌ يرجع إلى الطريقة الذاتية التي يليها كل منا عندما يحاول أن يتعلم، وختاما أستصفحك عما تحمله هذه الكلمة العجلى مِن هنات، وأنا جِدُّ منشرح لو أتصل بك دائما أرجو أن تمتعني بكثير من شعرك الذي أعتقد أنه ذو جرس فنِّي ممتاز يُتيح لسامعه اللذة والمتعة إلى لقاء قريب، والسلام عليك وعلى جميع الرفاق. إبراهيم) * هذه هي رسالة إبراهيم شبوح التي تلقيتها منه منذ خمسة وخمسين سنة، وألاحظ أولا أن البيت الأول الذي ذكره قد حفظته في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي عندما سمعته لأول مرة من إبراهيم عندما كنا نقيم معا بالحي الزيتوني فور إنشائه، وكان يحدثني عن بعض كتابات محمود المسعدي في مجلة «المباحث» ومن بين ما قال لي آنذاك: إن المسعدي قد استشهد بذلك البيت في إحدى مقالاته بتلك الجريدة، منسوبا إلى أبي العتاهية، بهذا الشكل: وإن الذي يسعى إلى غير غاية لمنطلقٌ في لجة الفاقة العظمَى ولعله في مقاله المشهور الذي جاء فيه قوله «الأدب مأساة أو لا يكون» وقد بحثت عنه في ديوان أبي العتاهية فلم أعثر عليه المنشور بدار صادر البيروتية. ** وألاحظ ثانيا أن أبيات ابن الرومي قد عثرت عليها في الجزء الأول من ديوانه الذي أشرف على تحقيقه أستاذنا الدكتور حسين نصار ج1 ص 279/287 من قصيدة طويلة تقع في 139 بيتا وهي في أبي سهل بن نوبخت وقد وردت فيه هكذا، وقد أضفت إليها مطلعها: 1) أحمد الله حَمْدَ شاكرِ نُعْمَى قابل شُكرَ ربه غيرَ آبِ 2) طار قوم بخفَّة الوزن حتى لَحِقوا رفْعةً بقابِ العُقابِ 3) ورسا الراجحون من جِلة الناس، رُسُوَّ الجبالِ فوق الهضابِ 8 جِيَفٌ أنْتنتْ فأضحتْ على اللجْجَةِ والدرُّ تحتها في حِجابِ ونلاحظ وجود فروق طفيفة بين ما جاء من الشعر في الرسالة وفي الديوان، فهو يكتبها من الحافظة. *** وألاحظ أنه يشير إلى الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وإلى البيان والتبيين للجاحظ وخطب الإمام علي كرم الله وجهه. وألاحظ ثالثا أن الرقم 1 الذي وضعه إبراهيم شبوح، إثر الكلمة التي ذكرها لحازم القرطاجني مشطوب في الرسالة، ويبدو أنه كان ينوي أن يشير إلى مكانها من كتاب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» الذي عرفناه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي مخطوطا في المكتبة العِبدلية المجاورة لجامع الزيتونة قبل أن يحققه الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة في رسالته الجامعية التي نال عليها درجة الدكتوراه من جامعة باريس سنة 1964 وقد طبع بعد ذلك سنة 1966بدار الكتب الشرقية وسنة 1981 بدار الغرب الإسلامي وسنة 2008 بالدار العربية للكتاب في سلسلة الذاكرة الحية. وأرجو أن يحدثنا إبراهيم عن صلته بهذا الكتاب عندما كان مخطوطا وأن يدلنا عن مكان تلك الفقرة التي ذكرها من هذا الكتاب في أي طبعة من طبعاته، فهو من أيمة التحقيق، وقد أشعرنا بذلك في صدر رسالته حين قال: (وأنا أصرف الزمان صرف الفقهاء، أحقق النصوص البالية القديمة، على كتب تُمِيت الذوق وتأتي على الحس فلا يكون، ولست أدري ما يجذبني لهذه الطرق الطامسة وفيها الحتف والفناء، كل ما أدري أني منجذب برغمي، فلأماشيه حتى نهاية الشوط المجهول وفي فمي هذا النشيد: وإنَّ الذي يسعى لغير نهايةٍ لَمُنْغَمِسٌ في لجة الفاقة الكبرَى(*) فيا وُفِّقتُ للنهاية ) وقد وفق في ذلك أيما توفيق، ناهيك أنه نشر في المجلة العلمية لجامعة القاهرة بحثا عن المخطوطات القيروانية وهو في السنة الأولى في قسم الآثار بجامعة القاهرة. وهو هنا يشير إلى أن المخطوطات التي تصرفه إلى الاهتمام بالتراث ويرى أنها تُميت فيه الموهبة الشعرية، ولكني أعرف أنه كان وظل وما زال شاعرا مجيدا.