هناك من الأحداث والمستجدات التي تحدث وهجا إعلاميا وتدفع إلى بعض التوتّر المشوب بالحذر والانتظارات وملامح الترقّب المفزعة، على الرغم من أنّها أحداث اعتيادية ومألوفة خاصة لمّا يتعلّق الملف بعلاقات بين دول صديقة وشقيقة ومتجاورة من حيث المد الجغرافي والسكاني. من ذلك مثلا، ما يتردّد وباستمرار حول نسق تطوّر ونموّ العلاقات التونسية الليبيّة، والّتي أكّدت كلّ الأحداث العميقة والإستراتيجية أنّها علاقات نموذجية بل وفريدة، لأنّها علاقات تمكّنت من المحافظة على نسق إيجابي في التطوّر والتقدّم برغم ما يلفّ المنطقة مرّات من سحب وزوابع وحتّى أعاصير، علاقات راكمت على مدار أكثر من عقدين حزمة هامّة من النجاحات والمكاسب الّتي لا يُمكن لأيّ متابع نزيه إلاّ الإقرار والاعتراف بها وبحجمها وعمق مدلولاتها ومعانيها والتي منحت لا البلدين فقط بل كامل المنطقة المغاربية والشمال إفريقية حالة من الاستقرار وديمومة التعاون والوفاق وانعدام مظاهر التشنّج والصدام. نعم، إنّها صورة فريدة كانت ولا تزال نموذجا يحتذى في العلاقات الدولية والدبلوماسيّة. معطى سياسي وقيادي تُكذّب الوقائع وحقائق المعطى السياسي كلّ التخمينات، ويدفع نسق التطور الملحوظ والهادئ في علاقات تونس بالجماهيرية إلى تأكيد أنّ هذه العلاقات بلغت حالة من النضج والوعي المشترك الّذي لا يُمكن معها انتظار أيّ شيء يُمكن أن يُفسد نمط التواصل الرائد والمتميّز والّذي يرعاه السيّد الرئيس زين العابدين بن علي وأخوه العقيد معمّر القذافي قائد الثورة الليبيّة، والمتابعون لشأن العلاقات الدوليّة والدبلوماسية الخارجيّة يعلمون كيف أنّه أمكن لقيادة البلدين المرور باستمرار نحو الأفضل بشكل العلاقات الثنائية، هذا إلى جانب ما أصبح مألوفا ومعهودا من ألفة ومحبّة نادرة تجمع الرجلين وتجعلهما متوافقان في أكثر الأمور والمسائل تعقيدا وتداخلا وحيرة. حكمة سياسية وقيادية تقود العلاقات بين الجارين والشقيقين تونس وليبيا نحو الأفضل على الدوام، وليس غريبا أن تتحقّق صلات الودّ السياسية هذه بشكل متواتر ودون انقطاع منذ سنة 1987 وإلى يوم الناس هذا امتدادا للعمق الجغرافي والتاريخي والاجتماعي بين شعبي البلدين والّذي يعود لعقود غابرة في التاريخ. وإن نسيت شخصيا فلا يُمكنني أن أنسى أبدا كيف تمّ منحي الأولوية والكلمة الأولى في طرح أسئلة على الأخ العقيد معمّر القذافي خلال ندوة صحفية دولية كبرى انتظمت في طرابلس منذ قرابة السنتين عندما أعلن العقيد حينها عن موقفه من «الاتحاد من أجل المتوسّط» وبحضور ممثلين لكبريات وسائل الإعلام الدولية، مُنحت تلك «الأولويّة» وذلك «التبجيل» لا لشيء إلاّ لأنّني «تونسي» وذلك ما أعلمني به لاحقا وعقب انتهاء الندوة أمين اللجنة الشعبية الليبية للاتصال الخارجي. أرقام ومدلولات بلغة الأرقام ومؤشرات الوضع الاقتصادي وحركة المسافرين هناك تأكيدات لا جدال فيها بخصوص النماء المطّرد لتلك العلاقات «الأخويّة» بين تونس وليبيا، فقد حافظ حجم المبادلات التجارية خلال سنة 2009 على نفس مستوى سنة 2008 (2 مليار دينار) برغم ما حدث من تأثيرات سلبية كبيرة في العالم نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية الّتي مسّت واقع المبادلات التجارية في كلّ أنحاء العالم وأدّت في ما أدّت إلى تراجع حجم هذه المبادلات على المستوى العالمي وحسب تأكيدات العديد من خبراء الاقتصاد بنسبة تتراوح بين 30 و40 %، هذا إلى جانب أنّ الحركية الملحوظة على مستوى تبادل الاستثمار بين البلدين حيث تمّ تسجيل العشرات من المشاريع والاستثمارات المشتركة بالإضافة إلى اتساع دائرة حرية مستثمري ورجال أعمال البلدين في الانتصاب في البلد الآخر دون حواجز أو تعقيدات وذلك بفضل حزمة الإجراءات والقرارات التشريعية والسياسية والقانونية الّتي أمكن وضعها على مرّ السنوات الماضية والّتي تمثّل أرضية خصبة لتعزيز الاستثمارات بين البلدين وفي كلّ واحد منهما. نظر مشترك نحو المستقبل هذا مع ما يمثّله رقم 4 مليون مسافر سنويّا في اتجاه البلدين من دلالات عميقة للتواصل التجاري والبشري والعلائقي المجتمعي بين شعبي البلدين، والّذين يدرسون التحولات والمظاهر الديمغرافية والسكانية لا شكّ أنّهم توقّفوا عند حالة الارتباط الأسري والعائلي الكبير وصورة التشابك المجتمعي الثقافي والتقليدي بين البلدين عبر حالات التزاوج والمصاهرة في الاتجاهين خاصة في المناطق الحدوديّة. وما تزال الأحداث «تُتحفنا» من يوم إلى آخر برفعة العلاقات التونسية الليبيّة، وكان الاستثناء الذي خصّت به السلطات في ليبيا أشقاءها التونسيين مؤخرا والمتعلّق بالإجراءات الجديدة الّتي تمّ إقرارها في ما يخصّ الدخول إلى الجماهيريّة، كان ذلك الاستثناء حركة نبيلة وفي قمّة التعبير، حيث ودون الخوض في خصوصيات القرار الليبي والمرتبط بواقع محلي متحرّك نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي ومدّ الترابط مع مختلف فضاءاته وخصوصيات إقليميّة مُكافحة للهجرة غير الشرعية ومناهضة ل»مراكب الموت» والّتي أصبحت ليبيا واحدة من الدول المتضرّرة منها على اعتبارها إحدى الممرات من القارة الإفريقيّة في اتجاه أوروبا ودول شمال المتوسّط، دون خوض في تلك الاعتبارات جاء «الاستثناء الليبي» للتونسيين ليؤكّد حقيقة وصدقيّة ومتانة العلاقات الّتي تجمع البلدين والّتي من المؤكد أنّها ستعرفُ المزيد من التطوير والنماء في السنوات المقبلة بالعزم الموجود وصلات الود والمحبّة العميقة وبالنظر المشترك والثنائي نحو تحديات الحاضر وترقبات المستقبل، وتلك خاصية الرؤية السياسية والإستراتيجية لقائدي البلدين.