في البداية أقدِّم المعنى اللغوي لكلمة جعفر، قال ابن منظور في لسان العرب: (الجعفر: النهر عامة، حكاه ابن جنّي. وقيل: النهر الملآن. وقال ابن الأعرابي: النهر الصغير فوق الجدول، وقيل: الجعفر النهر الكبير الواسع. وبه سُمِّيَ الرجلُ. وجعفر: أبو قبيلة من عامر، وهم الجعافرة). وقد سُمِّيَ بهذا الاسم كثير من القدماء مثل جعفر البرمكي وجعفر بن محمد المكنَّى بالمتوكل من خلفاء بني العباس الذي بَنَى الصومعة «الملوية» بسامراء، وبركة المتوكل المجاورة لها، وقد وصفها البحتري في قصيدة من روائع شعره قال فيها: كأنها، حين لجَّت في تدفُّقها، يَدُ الخليفة لمّا سال واديهَا وزادها رتبةً، من بعد رتبتها، أن اسمه، يوم يُدعَى، من أساميهَا وقد قال شارح ديوانه: «اسم الخليفةِ المتكلِ جعفر، والجعفرُ النهر. اعتبرَ هنا البركة نهرا». والغالب على الظن أن والد صديقنا الشاعر جعفر ماجد قد اختار له هذا الاسم لشهرة جعفر البرمكي في حكايته مع «العباسة أخت الرشيد» التي صاغها جرجي زيدان والتي كانت تتلى في سهرات العقود الأولى من القرن الماضي في السهرات التي تنتظم في الدكاكين وبعض المقاهي، ولعله لم يخطر بباله هذا المعنى اللغوي، الذي أشرت إليه منذ أكثر من ثلث قرن في قصيدتي «تحية القيروان في مهرجان الشعر» التي ألقيتها بعاصمة الأغالبة يوم 23/3/1973 في مهرجان الشعر العربي الحادي عشر المواكب لمِؤتمر الأدباء العرب التاسع بتونس التي نشرتها بعد ذلك في ديوان «صُمود: أغنيات عربية» ص 48/49 والتي تحدثت فيها عن مشاهير شعراء القيروان عبر العصور، وقمت فيها بتورية لطيفة باسم الشاعرين الشيخ محمد الشاذلي عطاء الله وجعفر ماجد، والتورية لون من ألوان البديع المعروف في البلاغة، وذلك بذكر لفظ له معنى لغوي ومعنى آخر هو المراد من الكلام، فالتورية هنا باسم الشاعرين المذكورين في البيت الأخير من هذه القصيدة التي تغنيت فيها بالقيروان وبمشاهير شعرائها عبر التاريخ: بأمجاد هذي الربوع فُتِنْتُ ومنها تذوّقتُ سحر البيانِ تعلمتُ من «عمدةِ ابنِ رشيقٍ» وأدركتُ من كنهها ما كفاني وكم قادني «الحُصريُّ الضريرُ» بدرب القريض البديع المعاني وأسكرني بالقوافي الطِّرابِ ومن خمر أشعاره كم سقاني! تعلمت منه شجِيَّ الغناءِ فقد كان دنيا تَفيض أغانِ وأنشقني «الحصَريُّ البصيرُ» شذا «زهر آدابه» فسباني فأوشكتُ أبصر عبر السطورِ رياضا من الورد والأقحوانِ وشعرا ونثرا يهُزُّ الشعورَ كخمرٍ معتّقةٍ في الدِّنانِ وما الشعرُ إلاّ عطاء الإله وجعفرُ وحيٍ وفيضُ معانِ ومن عجائب الصدف أني عثرت بين أوراقي، بعد أيام قلائل من رحيل جعفر، على ظرف مكتوب عليه بخطه: «الأستاذ الشاعر نورالدين صمود قليبية» وطابع البريد على الظرف يحمل تاريخ 31/7/1977 حلق الواديتونس، وقد وجدت، بداخله ورقة وردية اللون فيها قصيدة بخطه بدون عنوان وليس على ظهره عنوان الباعث، وليس معها أي كلمة نثرية للتوضيح أو حتى لمجرد السلام. وقد بدا لي، من خلال البيتين الثالث والرابع من هذه القصيدة المخطوطة، أنه لم يتمكن من حضور «مهرجان الشعر» المواكب لمؤتمر الأدباء العرب في ليبيا سنة 1977. فعدت إلى الأعداد التي صدرت من مجلة الفكر قبل تاريخ تلك الرسالة وبعدها لعلي أجد فيها خبرا يتعلق بالمهرجان الذي ذكره في البيت الثالث، فعثرت في العدد الأول السنة 23 الصادر في أكتوبر1977 على الأبيات التي أرسلتها إليه في تهنئته بنيل شهادة الدكتوراه، وهذه هي: إليك أصوغ أحَرَّ التهاني وأرفعُها يا فتى القيروانِ ويا وارث «الحصريّ البصيرِ» بأسرار فنِّ بديعِ المعاني ورثتَ العروضَ عن ابن رشيقٍ وقد عشتَ تقفو فحول البيانِ إلى أن بلغتَ الذي ترتجيه وحققتَ في العمر أغلى الأماني وما (الدكتوراه) التي حُزتَها سوى بدءِ سيْرٍ لأعلى مكانِ إلى أن نراك تجوز الثريا ويزهو بآثارك النَّيِّرانِ فيا «جعفر الشعر» والنثر خذها من القلب أزكَى المنَى والتهاني وقد نُشرت إثرها قصيدة جعفر المذكورة آنفا، وهي على نفس البحر والروي: أتتني قوافٍ، على نزرها شربت بها منك سحر البيانِ وأبقى الموداتِ ما بيننا صفاءُ القلوب وطَرْزُ المعاني ولم نَكُ يوما بتجار شعرٍ ولم نقبل الهُزْءَ في (مهرجانِ) مُنِعنا الكلامَ على باخسٍ ولم نقتسم غيرَ حبِّ الحِسانِ وراحوا ودمنا على ما ألِفْنا وإنا لفي فننا توْأمانِ وما زلت أذكر عهدا قديما هجانا به كل قاصٍ ودانِ لأنا وصفنا الجمال كثيرًا وإنّا على وصفه ثابتانِ ولكننا حين تَطْغَى الخطوبُ نكونُ مع الشعب حين يعاني فشكرا على ودِّكَ المستعاد وعذرا على ما ترى من توانِ والملاحظ أنه يشير في هذه القصيدة إلى أني وإياه كنا من المؤمنين بالفن للفن، مع «الالتزام» التلقائي الفني، لأننا ضد «الالزام» الإجباري أو المنفعي الذي يقضي على الفن ويجعله في خدمة الأغراض السياسية التي قد تتبدل بمرور الزمان واختلاف الأوضاع، وقد كان بعض المتظاهرين ب»المعارضة» يؤاخذوننا على تغنينا بالجمال في المواضيع الغزلية، في أجمل معانيها، أو الوطنية في أشمل معانيها، ظانين أن ما يكتبونه في المواضيع الضيقة التي يدعونها «التزاما» مثل التغني ب«التعاضد»، شعر جيد، بينما رأيناهم قد انقلبوا على تلك المعاني عندما تراجع النظام في التعاضد، وحاكم المكلف بالتخطيط والتصميم، لأسباب بعيدة عن الفن والجمال، فكان كل منا «ملتزما» يكتب تلقائيا ما يجول في أصغريه، أما منتقدونا، على عدم الالتزام، فقد كانوا «ملزمين» أو إمَّعة، يرددون ما يقول المسؤولون كالببغاء عقله في أذنيه. والطريف أني اخترت للقصيدة التي ودعت بها شاعرنا الراحل، عنوان (جعفر الشعر) بالمعنى اللغوي الذي ذكرته في أول هذا الحديث، وقد وجدت أني استعملته منذ أكثر من ثلاثين سنة في هذا البيت من قصيدتي السابقة وهو: أيا «جعفر الشعر» والنثر خذها من القلب أزكَى المُنَى والتهاني. فهو نهر من أنهار الشعر المتدفقة، لم ينفك عن كتابة الشعر طيلة نصف قرن، وترك لعشاق الشعر مجموعة من الدواوين هي: نجوم على الطريق والأفكار وتعب والأعمال الشعرية التي جمع فيها معظم شعره، وقد وقع التغني بكثير منه، أداها العديد من المطربين والمطربات، وهي كفيلة بأن تكتب اسمه في سجل الخلود.