5) القصيدة الحرّة في «الأغاريد والعناقيد»: أما الشعر الحرّ في هذا الديوان فهو مازال يتدرّج مستندا إلى جدار الشعر العمودي، وليس معنى ذلك أني لم أجد ما يلفت الانتباه بل هناك ما هو هام ولعلّ قصيدة: «شيء ما» (ص 180) لها ما يجعلها متميّزة ومنها قافية القفلة الجميلة نهاية كلّ مقطع خاصة وهي مُعتمدة على قلقلة القاف.. بيد ان هذا التميز قد يسيء له ما في هذا القصيد الحرّ من تجاوز لا مبرّر له واغماءات غير لذيذة.. في قوله: حُلمك الأول مازال صغير لفؤاد كاد من شوق يطير ومعروف ان الاسم النكرة المنصوب لا يجمل بالشاعر إلا أن ينهي حرفه الأخير بألف تنوين النصب كما أسلفنا لذلك كان عليه أن يقول: (حلمك الأول مازال صغيرا.. لفؤاد كاد شوقا أن يطير) هذا إلى جانب خلل عروضي في إيقاع الرمل وقع فيه الشاعر في قوله: (أين ضيّعك الليل وأين الملتقى؟..). ولعلّ هذا الخلل هو سهو ناتج عن سقوط حرف: (قد) بعد: (أين) كما أن هناك سهوا آخر في قوله (ص 181): (هل أجد عندك في الوحدة سلوى؟) إذا صارت (هل) حرف جزم صح إيقاع الرمل ووقع الشاعر في الخطإ اللغوي، وإذا حركنا حرف (الدال) بالضمة اختل الإيقاع وصحت العربية، ولا يصح الإيقاع والعربية معا إلا إذا اعتبرنا أن (هل) هي خطأ مطبعي، والصحيح هو إبدال (هل) ب(لم). إن شعراء هذا العصر البلاستيكي لم يفهموا أن الشعر العربي لا يتطوّر بصبه في قوالب خشبية قديمة أو في قوالب بلاستيكية جديدة بل يتطوّر بالخروج عن.. أو الدخول في القالبين معا خروجا مدروسا يحتمل الدخول، ودخولا مدروسا يحتمل الخروج. فالداخل إلى خدر الحبيبة جرأة وحبيبتنا هنا هي القصيدة العربية يجب أن يخطّط للخروج قبل الدخول والخارج من خدر الحبيبة امرأة يجب أن يفكّر في الدخول إليه ثانية لاسترجاع رجولته منه وترك المرأة العربية داخل الخدر مادامت هي الأخرى لا ترفض بل تقبل أن تنظر إلى العالم الجديد من خلال البرقع!! وعلى رأي عادل إمام حين سئل: هل رأيت من يصعد إلى جارتك؟ فأجاب: نعم رأيت رجالا يصعدون (محترمين) وينزلون: (غير محترمين)! أليس رأي عادل إمام هو الصواب؟! وليس الصواب أن نولّي وجوهنا قبل التقليد سواء كان التقليد بصيرا أو أعمى فهو في كلتا الحالتين تقليد يبصر بعين الغير ويعمى عن عين وجهه. ثم إن الذي يتوجه إلى إبداع يعتقد أنه جديد ويسميه باسم معتّق عندنا وهو كلمة: (شعر) ألا يكون قد ظلم المبدع والابداع معا؟! لذلك وجب على كتبة «قصيدة النثر» أن ينتبهوا إلى الظلم الذي يمارسونه على أنفسهم وعلى ما يبدعون من كلام حديث لا يخضع إلى مدلول كلمة: شعر! هذه التي لها تاريخها وحضارتها وعالمها المحاط بألفي سنة من عمر الشعر العربي. والمجرم قد يقتل أباه ولكنه لن يستطيع أن يتخلّص إلا جينيا من كونه قاتلا وكون القتيل كان أبا له. 6) الشعر من العمودي إلى الحرّ.. إلى أين؟ لقد أراد ذات يوم تطوير ذلك العالم كلّ من الشاعر باكثير وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وقبلهما جبران خليل جبران فتنادوا بتجاوز البيت الشعري إلى الوتر الشعري أي تجاوز: (الصدر والعجز) إلى (السطر الشعري) أو ما تسميه مدرسة الأخلاّء: (الوتر) الذي هو الكلمة الواحدة في سطر، كقول السياب (مطر) (مطر) في قصيدة: «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر»، وقد يكون الوتر كلمتين أو أكثر حسب مشيئة الشاعر لا مشيئة الوزن، وهو الذي عوّض البيت الشعري ولم يستطع أن يزلزله كما يؤكد أبو وجدان ذلك ي قوله: لا يعشق الشعر من غذّاه تمويها ولا القصيدة إلا من يعانيها كل البيوتات للزلزال ما صمدت إلا التي نحن شيّدنا قوافيها لقد حاول أصحاب الشعر الحر كالشاعرة نازك ومن حذا حذوها حاولوا بكل قسوة إعدام البيت الشعري ولم يفلحوا إلا في إثبات الوتر الشعري الذي منه تنبني كل قصيدة حرة. واليوم يحاول أصحاب: «قصيدة النثر» بكل عجز إعدام البيت الشعري ووتر القصيدة الحرة معا... وهم أيضا لا أعتقد أنهم سيفلحون في إعدام ذلك البيت الخالد ولا ذلك الوتر الجميل حتى ولو أثبتوا قدرتهم الفائقة على التسجيل المتكرر لميلاد: «قصيدة النثر» في دفاتر الحالة المدنية المؤمنة بأن الكلام الذي لا وزن له ولا قافية ولا معنى يوطّد للنظام العربي (الأمن والسلم والكراسي!). إذن تعرّض البيت الشعري عبر تاريخ الادب العربي الى محاولتين من محاولات الاعدام من طرف أصحاب الشعر الحر أولا... ومن طرف أصحاب: «قصيدة النثر» ثانيا... ولكنه مازال صامدا... ولن يزال... ولا زال حيّا يرزق أبد الدهر بالرغم من تلكما المحاولتين الرهيبتين لاعدام البيت الشعري ووتره الحديث... حكم الاعدام نرفضه رفضا قاطعا... رفضا مطلقا بأن يسلّط مهما كانت الاسباب على بني الانسان، فما بالك أن يسلّط على البيت الشعري؟! ذلك الصامد في براءته... البريء في صموده الابدي! ذاك البيت الشعري الذي سكنه أبو وجدان معتزّا به منذ ولادته وسيسكنه بلا انقطاع... ويسكنه معه كل رموز الشعر العربي منذ أن قال امرؤ القيس: (قفا نبك) والى أن جاء الشابي الذي مازال في جميع أنحاء العالم يسكن هذا البيت: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدرْ وسيظل يسكنه الى الابد، وسيظل ذلك البيت الشعريّ خالدا رغم شفاه الكثيرين من الذين يهددونه بالخطيئة الخطيرة: بالاعدام! والشاعر الوحيد الفرد العلم الذي لا يخاف من الحرب التي يشنّها عليه أصحاب «قصيدة النثر» لأنه لم يعتبرهم شعراء ولم يعتبرْ نثرهم شعرا فاضطهدوه! ولكنه ظل رغم ذلك الاضطهاد يشدو مع البيت الشعري صدّاحا: (لن تطفئوا شمسي) أبد الدهر إن من ينتظر الإعدام لا ينفكّ حيّا... ليس حيّا حين لا ينتظر الانسان شيّا كلنا ننتظر الاعدام في كل البيوت غير بيت واحد يرفض أوتار السكوتْ كل من يسكن فيه مستحيلا أن يموت! مستحيل أن يموت!