البعض منّا نحن الفنّانين يسكننا هاجس الابداع فندفع جزءا من حياتنا في سهر الليالي وإغفال العائلة والأقارب وكل الأجواء الحميمية بحثا عن المجد وسط صخب الجماهير ويحدث أن نبلغ هذا المجد وننتزع محبّة الجماهير وربما نطمئنّ لذلك ونعتبر جواز العبور الى محبة الناس سوف يدوم، يكفي ان ننتقل من دور الى دور آخر وأن نغيّر قناعا بقناع ولكن هناك دورا واحدا لا يتغيّر وهو الدور الذي يعرفه القلائل.. إنه دورنا في الحياة.. فإن نحن لم نُتقن القيام به انقلب وبالا علينا.. لأن هذا الدور يتخطى كل الأدوار التي نقوم بها افتراضيا. وخديجة اللطيّف ممثلة من هذه الطينة.. بحثت عن المجد وبلغته في جمعية «المسرح الصغير» وفي الفرقة المسرحية الجهوية بسوسة في الثمانينات وفي فرقة المهدية وحصدت الجوائز ونالت الاعجاب ولكنها لم تقرأ حسابا لأواصر الدم ولم تكسب مالا يقيها غوائل الزمان، بل هي لم تفكّر في الآتي.. كانت مكتفية بتصفيق الجمهور وأضواء الاعلام..ولكن للزمن دوراته وانقلاباته.. بدأت الصدمات بخسارة الحياة الزوجية.. وكانت تلك رجّة زعزعت كيانها وأفقدتها توازنها خاصة وهي تعول طفلها أحمد الكائن الوحيد الذي جعلها تتشبث بالحياة وهي في حالة عزلة قاتلة بمدينة المهدية حيث حطّت رحالها.. وبعد انحلال الفرق الجهوية زادت عزلتها وتفاقم يأسها، فالمسرح الذي كان حياتها وتحقيق وجودها قد غاب عنها وبقيت أمام معادلة صعبة، فإما أن تذهب للبحث عن أدوار تلبّي رغباتها وتفجّر طاقاتها الكامنة وتجازف بابنها إن هي جازفت بمرتّبها الزهيد جدا، وإما أن تحضن ابنها وتراه حتى يكبر... وهنا تحرّكت عاطفة الأمومة.. وبقيت في المركّب الثقافي تقوم بكل الأشغال الا فن التمثيل... انها تضحية قاتلة... والغريب أنها قامت في سابق الأيام بدور «أنطغون» في مسرحية «لن يُقبر الأحياء» وتحصّلت على جائزة أفضل ممثلة ولكنها قُبرت وهي على قيد الحياة.. فهي وليدة مدينة طبربة تعيش وحيدة بدون أية حماية.. ومضت السنوات وكبر الإبن وذهب الى الدراسة خارج المهدية وكان ناجحا رغم فقدان الأبوّة (نتيجة الطلاق) ولكنها كانت عاجزة عن مرافقته فقد حكم عليها بالبقاء في المهدية لتبرّر مرتّبها الشهري الزهيد الذي لا يتجاوز المائتي دينار.. وها هي ذي خديجة تضحّي بالفن الذي أحبّته، وربما كانت هذه التضحية ونسيان الناس لها سببا في أفولها يوم الاثنين 18 جانفي 2010 وكان دفنها يوم الثلاثاء 19 جانفي، ولكن لم يكن أحد من أهل الفن يعلم ذلك.. ماتت مجهولة ودفنت بمدينة طبربة بدون تأبين، وبدون حضور الزملاء وبدون جمهور، إنه موت مأساويّ.. موت بائس، موت طالما كان يخيفنا ويُقضّ مضاجعنا، فهل سنتمكّن في يوم من الأيام من تجنّب هذا المصير المؤلم؟ خديجة اللطيف قامت بأدوار في أعمال كثيرة لعبد الغني بن طارة من بينها ««لن يقبر الأحياء» تأليف أحمد عامر و«الفلقة والعصا» عن برتولد بريشت.. وتحصّلت على جائزة أفضل ممثلة في مسرحية «أرصفة» تأليف واخراج كمال العلاوي بفرقة المهدية. رحمها الله رحمة واسعة ورزق أهلها وذويها جميل الصبر والسلوان وخاصة ابنها احمد وفّقه الله في حياته القادمة.