بيروت (الشروق): من مبعوثنا الخاص: النوري الصّل للمرة الأولى تتاح لي فرصة زيارة بيروت. مدينة لطالما رسمها الشعراء والادباء في مخيلتي ولطالما ظلّت حاضرة في البال بسبب الاحداث التي مرت على لبنان منذ عقود من الزمن... أحداث دامية ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء بيروت... ولكن رغم ذلك حافظت هذه المدينة على عوالمها... وحكاياتها الجميلة... التي لا تشبهها حكايات... وحافظت على ابتسامتها رغم الجرح الذي لايزال في جسدها... فعندما كانت الطائرة تتهيأ ل «تقبيل» الارض اللبنانية في مطار رفيق الحريري وعلى يمين المدرج مباشرة يلتقيك ساحل البحر... لا تفصله عن المدرج سوى بضعة أمتار وسلك شائك... وعبر نافذة الطائرة في جهتها اليمنى «تبتسم» لك بيروت على طريقتها... لتحكي لك شيئا من حكاياتها... حكايات الحرب... والجمال والحب... وتبدأ الرحلة... التي لا تملك إلا أن تستسلم لها... للوهلة الاولى تستوقفك بيروت بحيويتها ونشاطها... فهذه المدينة تبدو لك متحركة بقوة سحرية غريبة وعجيبة في نفس الوقت... تبدو مفتوحة على نفسها وعلى غيرها تحاور... وتعيش... تتجادل فيه الاسئلة السياسية والثقافية والاجتماعية بشكل دائم... كما لو أنها تريد أن تسترد ذلك الوقت الذي أضاعته في سنوات الحرب الاهلية المدمرة... تتحرك بيروت ليلا ونهارا... وتكاد الحياة فيها لا تتوقف أصلا... وهي تحاول أن تنزع عن نفسها ما تبقّى من ثوب الخراب لتعود الى واجهة العمران ولتستعيد لقبها... «عاصمة الاناقة العربية» الذي «سرقته» منها سنوات الحروب والصراعات الاهلية... هذه الحروب والصراعات التي تركت آثارها على بعض البنايات لتذكّر اللبنانيين بالايام العصيبة التي مرّوا بها نتيجة أزمات متتالية... غير أنها لم تنجح في «دفن» مظاهر الحياة في بيروت... هنا حيث رسالة الحياة ترتفع بارتفاع مبان جديدة... أراد من خلالها اللبنانيون أن يقولوا إن إرادتهم في الحياة أكبر من كل شيء... وأقوى من كل شيء... حتى من الموت نفسه... بل إن ما يستوقفك هنا أن الناس بعد كل أزمة يزدادون اقتناعا بأن الحياة أجمل... وأنت تجوب بيروت لا تستطيع أن تمرّ دون أن تزور «شارع الحمراء»... فهذا الشارع ينبض بالحياة ليلا ونهارا... وهو يشكل ملتقى المثقفين رغم أنه يجمع تناقضات قد لا تكون موجودة إلا في هذا الشارع حيث تجتمع مقاهي المثقفين والكتّاب مع المحلات التجارية مما يجعله قبلة الناس في كل يوم... وقد يبدو لك من غير المقبول أن تزور بيروت دون أن تمر على عدد من المعالم التي صارت ترتبط بلبنان وتحوّلاته السياسية ومشهده الامني... مكان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري... والضاحية الجنوبية وكذلك مقر جريدة النهار التي تمثل ذاكرة لبنان بكل حيثياتها... المسافة من «شارع الحمراء» الى الضاحية الجنوبية هي كيلومترات معدودة لكنك بمقياس الزمن قد تحتاج الى أكثر من نصف الساعة للوصول الى الضاحية على متن «التاكسي» أو «السرفيس» كما يسمّيها اللبنانيون وذلك بسبب الازدحام الشديد الذي تعاني منه بيروت في كل الاوقات من النهار والليل على حد سواء... وما إن تطأ قدماك الضاحية حتى ترى المكان يعجّ بصور نصر الله الأمين العام ل «حزب الله» ونبيه برّي وصور الشهداء... لم يكن المكان يوحي بأن حربا قد مرّت من هنا.. فقد تمكّن «حزب اللّه» ومسؤسساته الإنمائية والاجتماعية من إعادة الحياة إلى سالف نشاطها وإنهاء جانب كبير من مظاهر العدوان الاسرائيلي المركّز على الضاحية الجنوبية.. تفرض فكرة «دولة داخل الدولة» نفسها في ذهن كل من يتجوّل في أحياء الضاحية عند النظر إلى المباني أو المارة في الشوارع.. ويعتبر قاطنو الضاحية أن هذه الخصوصية التي تخضع لها منطقتهم وإن كان البعض يصنّفها على أنها «دولة داخل الدولة» فإنها من حقّ المقاومة لحماية الوطن والذود عن حرمته واستقلاله.. وربما هذه كلمة السرّ في صمود هذه المنطقة ومقاومتها وهي التي كانت أكثر المناطق عرضة للتدمير.. خلال العدوان الاسرائيلي الأخير.. وربما أيضا تغالبت على جراحها وآلامها في أسرع وقت كالعنقاء حين تنتفض من تحت الرماد.. ألم يقل أحد المفكرين العرب ذات يوم إن بيروت هي المدينة الوحيدة في العالم التي تحمل روحها.. في جسدها وفوق جروحها.