(1) يبدو لي أحيانا وكأننا لم نعلم شيئا عن حقيقة واقع عالمنا اليوم، أو كأننا إن علمنا لم نع بعد عمق التحوّلات التي طرأت على هذا العالم ولازالت به تقلب ثوابته وتغيّر جغرافيته كل يوم حتى أن الإنسان إن توقّف يوما واحدا عن بذل جهد التساؤل والفهم والتيقّظ لفظته ساعة التطوّر المتواصل وأخرجته من عصره. ولكن هل نحن نبذل هذا الجهد الضروري لاستيعاب تداعيات هذا التحوّل الكوبرنيكي كلها أو جلّها والتي فرضتها على الإنسانية جمعاء ثورة المعلومات التي لن يكون لأحد قدرة التنبؤ بما ستفرضه من تغيرات جديدة في مستقبل الأيام، عبر وسائلها المؤنسة الجذابة وتلك هي المعضلة من هاتف محمول وأنترنيت وتلفزة مرتبطة بشبكات عالمية؟ (2) لقد كان من نتائج ثورة المعلومات أن صيّرت سكّان أرضنا الأريضة أو التي كنا نظنّها كذلك إلى جمهور مشاهدي تلفزة اجتمعوا في صالون كبير فلا قدرة لأحد أن يشاهد غير ما يشاهده الآخرون.. السكّان الأونويت في الجزء الثلجي لكندا لهم اطلاع على أزمة دارفور ويتابعون تطوراتها، ولا يتغافل أهالي بلاد الزولو في إفريقيا الجنوبية عن الاطلاع عما يجري في التّيبت في أعالي الصين ويتعاطفون مع بوذييها المضطهدين. هكذا عالمنا اليوم لا قدرة لأحد على العيش دون الآخر أيا كان هذا الآخر. لكن حذار: فهذا التقارب المفروض على الجميع يتمّ بالتوازي مع نموّ أصبح يسميه علماء الاجتماع في أمريكا ب«سلطة الفكر الناقد الجماعي» والمتمثل أساسا في السعي إلى مراجعة المفاهيم التقليدية وترتيبها حسب منظومة قيمية جديدة تعمل شعوب العالم «تلقائيا» على تكريسها على أرض الواقع. فماذا تعني «القوة» اليوم؟ وماذا تعني «البطولة»؟ بل وماذا تعني «الوطنية»؟ لنقف قليلا عند هذه. ألم تروا كيف استعصى على دولة مثل فرنسا أن تخرج بنتيجة تذكر من الحوار الوطني الذي طرحته الحكومة حول موضوع «الهوية الوطنية» وأرادت من خلاله أن تفرض منحى في الانتماء يتميز بالانغلاق والإقصاء؟ أما «القوة» فإنها تحوّلت من المادة إلى الافتراض ومن حجّة السلاح إلى برهان الصورة. وكذلك الشأن حينما يتعلق الأمر بمفهوم البطولة إذ لم تعد تُقاس بعدد الذين سقطوا على ساحة الوغى بل بالحد الأدنى للمقتولين. هكذا تتغير المفاهيم في عالمنا اليوم فتعلو قيمة التضامن على الثراء والشجاعة على البطولة والمواطنة على الوطنية. (3) إن الفكر الناقد الجماعي إنما هو تجربة يومية وتمرين ودربة. إنها ثقافة جديدة تفرض كما أسلفت جهدا دائما وسعيا دؤوبا إلى رفض السهولة ونبذ الكسل والابتعاد عن الجاهز. ولا شك أن هذا الجهد موكول إلى رجال الثقافة ومبدعيها المطالبين ببذل وتحمّل الجهد لملء الفراغات الماديّ منها والافتراضي بنشاطاتهم وانتاجاتهم وحراكهم الذي لا يجب أن ينتهي أبدا لأن الطبيعة التي تبغض الفراغ ستتولى إذن ملءها بمضامين غير التي نحتاج فلا يبقى لنا غير حرية الاستهلاك. إن الثقافة هي الضامن الوحيد للانتماء الوطني. (4) وإذا اعتبرنا أن من أهم وسائل ثورة المعلومات وتجلياتها التلفزة فكيف نقبل ألاّ تساهم هذه الوسيلة الفعّالة في هذا المجهود المشترك لبناء وإنماء الفكر الوطني الناقد عبر مطارحات فكرية جدية وحوارات ثقافية منتظمة ولقاءات ونقاشات وغير ذلك من مثل هذه الانتاجات التي تغذي الفكر وتنمي الاحساس النقدي فيتعمّق الوعي ويثبت الانتماء ويكبر الطموح. إني أستغرب من غياب مثل هذه الانتاجات الحيوية من برامج تلفزتنا الوطنية، وأستغرب أكثر من أن تسقط نفس التلفزة في سهولة بثّ سخافات «تلفاز الحقيقة» وبكائيات تعساء مجتمعنا بدعوى أن الجمهور يطالب بذلك. يقول علماء التاريخ إن الجغرافيا هي العنصر الوحيد الثابت في التاريخ. وبالإضافة إلى موقعها الجغرافي الملائم أنعم اللّه على بلادنا بزعماء كانوا سبّاقين في رصد تحولات التاريخ واستباق مقتضياته ولا شك أن تظاهرة في قوة وقيمة ورمزية قمة تونس للمعلومات سنة 2005 إنما تنصهر ضمن قدرة قادة بلادنا في فهم سيرورة التاريخ وهو ما يزيد في مسؤولية رجال الفكر والثقافة والابداع في العمل على توفير مضامين صورتنا في عالم صار شاشة تلفزية كبيرة. (5) كلمة عتاب إلى صديقي مدير المسرح البلدي الذي تغافل عن أن يجتهد لمنع الضوضاء التي غمرت قاعة المسرح في وقت كان عازفو الأوركستر السنفوني يجهدون النفس لمعانقة العالمية.من قال إننا نفتقر لفضاءات ثقافية والحال أن قاعاتنا مهملة وسخة محقورة مهجورة؟