أريد أن أعود الى نتائج الدراسة الميدانيّة التي قامت بها اللجنة الوطنية للاستشارة حول الكتاب والمطالعة، وما أشارت اليه من قطيعة بين التونسيّ والقراءة.. وكيف لا نتحدّث عن قطيعة وقد أثبتت الدراسة أنّ ثلث التونسيّين المُستَجوَبين لم يطالعوا كتابًا واحدًا في حياتهم!!وأنّ ثلاثة أرباع المستجوبين لم يدخلوا مكتبةً عموميّة في حياتهم!!وأنّ قرابة العشرين بالمائة من المُستجوَبين يجاهرون بأن لا علاقة لهم بالكتاب أصلاً!! أرقام مؤسفة، ترفدها أرقام أخرى ملقاة على قارعة الأنترنات ومبثوثة في الصحف على مرأى ومسمع من العالم، تتحدّث كلّها عن مواطن عربيّ يسير بخطى حثيثة في اتّجاه الأميّة.. مُواطن عربيّ لا يتعدّى معدّل القراءة لديه الدقيقتين في العام مقابل ساعتين للمواطن الأوروبّي، وفق بعض التقارير.. بينما تذهب تقارير أخرى الى أنّ العربيّ يقرأ بمعدّل عشر دقائق في حين يقرأ الغربيّ بمعدّل ست وثلاثين ساعة سنويًّا.. مُواطن عربيّ تتّسع أرضه لأكثر من ثلاثمائة مليون نسمة لا يُطبع فيها غير مليون كتاب في السنة، أي أقلّ ممّا يُطبع باللغة الاسبانيّة في ثلاثة أشهر.. أمّا النسبة القليلة من القرّاء العرب فلا تتمتّع الاّ بما يعادل كتابًا واحدًا للمواطن في السنة، بينما يحظى المواطن في أوروبّا ب 518 كتابًا وفي أمريكا ب 212 كتابا في السنة.. وفي تقارير أخرى أرقام أكثر احباطًا.. طبعًا أسباب هذه القطيعة عديدة ومتشعّبة.. وليس من الخطإ العودة بها الى ما هو اقتصاديّ والى ما هو اجتماعيّ ثقافيّ سياسيّ.. لكن من الضروريّ أيضًا عدم التغافل عن دور المؤسّسات الاعلاميّة في هذه القطيعة.. نحن نعيش عصر الاعلام بامتياز. ولم يكن بورديو يمزح حين قلب سؤال الكينونة الشكسبيري قائلاً: «أن نكون مرئيّين في التلفزيون أو لا نكون.. هذه هي المسألة.. » ولنا أن نفهم كلام بورديو في سياق فضاءات الاعلام السمعيّة البصريّة والمكتوبة والرقميّة بشكل عامّ. فضاءات الاعلام هي مصدر المعرفة الأساسيّ اليوم.. وهي وسيلة الرواج.. وهي منطلق النماذج والأنماط والنجوم التي سرعان ما يتّخذها المستمعون والمشاهدون قدوة، يتشبّهون بها ويتماهون معها ويحلمون بالوصول اليها ويقلّدونها في هندامها وفي كلامها وفي قيمها وفي سلوكها.. وقد تدهور سُلّم الأولويّات في معظم فضاءاتنا الاعلاميّة، ليس بسبب مذيعيها ومنتجيها، بل بسبب الخيارات الخاطئة لعدد من أصحاب القرار فيها.. فاذا هي تقصي الكتاب.. بدعوى الحرص على تجنيب المستمعين والمشاهدين كلّ ما يدعوهم الى التفكير!! واذا هي تخترع لنا أطباقًا لا طعم لها ولا رائحة، تُطلق عليها اسم «ثقافة الجوّ»، معدمةً الابداع، ذابحةً اللغة، مانحة الصدارة للاعبي الكرة وتجّار النشاز وأصحاب العضلات المفتولة وقرّاء الكفّ.. وكأنّها تقول: هؤلاء هم القدوة أيّها الجيل الجديد.. اركلوا الكرة.. دوّروا الحزام.. انتظروا الحظ.. تبادلوا «التشليط» و«التزبريط» ودعكم من العلم والفكر والأدب!! طبعًا لم تُغيّب هذه الفضاءاتُ الكتابَ تغييبًا كاملاً فهي تعرف أنّ ذلك سيكون فضيحة.. لذلك هي كثيرًا ما تستضيفه لكن على سبيل رفع العتب، لتزيين الشبكات والاحصائيّات.. وكثيرًا ما يتمّ نفي هذه البرامج في أروقة الربع الخالي من المستمعين والمشاهدين، ثمّ يتمّ ابعاد القادرين على انتاجها بحرفيّة ومرح، لفائدة وسطاء مُختارين عن قصد كي يبعثوا على التثاؤب (مع احترام الاستثناءات، وهي عديدة).. هكذا يتمّ حرمان برامج الثقافة من كلّ متطلّبات النجاح.. وكأنّ المقصود هو أن يبدو للعيان أنّ الاذاعة والتلفزيون لم يعودا من حقّ الكاتب والمثقّف، بل هما حكرٌ على «الدي دجي» ومنشّطي العلب الليليّة. لقد فهم الغرب خطورة هذه الخيارات الخاطئة.. لذلك صحّح المسار.. فأعاد الكتاب والثقافة الى شبكاته بشكل لافت، لا فرق في ذلك بين فضاءات القطاع العامّ والقطاع الخاصّ.. وأصبح من المألوف حتى في المنوّعات، أن نرى نجم الكرة أو نجم الأغنية يتحدّث عن هذا الكتاب أو ذاك، أو يستمع باحترام الى هذا الكاتب أو ذاك.. أي يتقاسم معه نجوميّته أو يوظّفها لصالح العلم والفكر والأدب. في غياب ذلك، لا يمكن للاذاعات والفضائيّات الاّ أن تصبح لاعبًا أساسيًّا في احداث قطيعة المواطنين مع الكتاب. وعاملاً أساسيّا من عوامل نشر الأميّة الجديدة. وطرفًا جديرًا بأن يُسأل: لماذا تكرهون الكتاب؟ ومتى تتمّ محاسبتكم على ذلك؟