(1) في كتابه «الدراسات الإسلامية ومستقبل الإسلام» يقول المفكر فضل الرحمان مؤكدا على أهمية التحولات التي طرأت على عالمنا وغيّرت واقعه: «في الأمس القريب كان سنّ التقليد متوقفا على عمل أصحابه والقائمين عليه دون سواهم، أما اليوم فإن الأمر تغير كليا لا سيما بالنسبة إلى المسلمين». ويأتي كلام هذا المفكر الأمريكي ذي الأصل الباكستاني في سياق التدليل على أن الإسلام أصبح حقلا مفتوحا للدرس والبحث على النطاق العالمي وأنه صار موضوع مساءلة ومباحثة وفضاء اتصال بين مناطق ثقافية مختلفة حتى أن الاعتقاد ساد اليوم أن الاسلام لم يعد شأن المسلمين دون غيرهم بل هو أضحى قضية الإنسانية جمعاء. (2) ولا شك أن في هذا الواقع العالمي الجديد الذي صار فيه الاسلام موضوع حوار ومطارحة تساهم فيهما كل شعوب الأرض ما يدفع للاطمئنان والتفاؤل لأن فيه إعلانا سافرا على فشل المشروع السلفي الذي هدهد الناس سنوات طوالا وخدعهم بوهم العودة إلى المجتمع الإسلامي المثالي الذي لم يكن أبدا إلا هدفا حضاريا مستمرا تتطلع إلى تحقيقه الشعوب الاسلامية كما تطلعت إليه زمن النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. لست أرغب أن أقف عند المصائب التي سببها وهم المجتمع الاسلامي المثالي فالمأساة مازالت متواصلة في أفغانستان وباكستان والصومال، لكن المتأكد أن ليس هناك شعب يقبل اليوم أن يُحكم بسلطة الدين والشعوب الاسلامية لا يمكن استثناؤها من هذه القاعدة الجديدة. ألم تر أن البعض القليل منها الذي طالته سلطة الفقهاء صار يتململ ويتظاهر لإنهاء حكم الفتاوى؟ هذه هي الحقيقة التي يجب على المسلمين أن يعوها: إن مصيرهم لم يعد بين أيديهم وحدهم بل أصبح تحديده من مسؤولية وحق الشعوب الأخرى التي تقاسمهم هذه الأرض، وذلك باسم العولمة التي شابكت بين مصالح الدول والشعوب لا فقط تلك السياسية منها أو الاقتصادية بل والثقافية أيضا والحضارية. (3) إن فشل الإسلاميين في فرض مشروعهم الخادع لم يزد الحاجة إلى إصلاح الفكر الإسلامي إلا تأكدا وإلحاحا. وهو ما تسعى إليه النخب في الدول الإسلامية مطالبة بتكريس مجتمع الديمقراطية والحوار الحرّ والعدالة الاجتماعية، ومتصدية في ذات الوقت لقوى التطرف والانغلاق والانعزال. وفي الحقيقة أن جهد النخب الإسلامية وسعيها إلى إصلاح الفكر الإسلامي أو على الأقل لجعله يتلاءم مع مقتضيات العصر وفيران كبيران لكنهما لم يثمرا وعيا شعبيا قادرا على قبول التعامل مع الإسلام من حيث هو حامل لقيم روحية سامية تدفع لفعل الخير وتحرض على التسامح وتشجع على التحلي بالفكر النقدي، لا ككونه مجرد جامع لأحكام وشرائع. والواضح أن حقيقة القطيعة بين النخب والقواعد الشعبية ثابتة وأن كلاهما يتطور في اتجاه معاكس وبنسق مختلف. فبقدر ما تنمو إرادة الأولى في إصلاح الفكر الإسلامي وجعله يستجيب لمتطلبات الديمقراطية وحقوق الانسان بقدر ما تنكمش الثانية على نفسها لتعيش إسلامها لا كانتماء روحي بل كهوية خصوصية مما يسهّل فصلها ويزيد من عزلتها في العالم. (4) إن السؤال هو ذاك الذي طرحه الأستاذ المرحوم محمد الشرفي المثقف الذي اصطفاه الرئيس بن علي وحمّله مسؤولية وزارة التربية والتعليم العالي لخمس سنوات كاملة. يقول نص السؤال: «كيف نُخرج الإسلام من السياسة ونخرج السياسة من الإسلام»؟ لقد تعددت محاولات الاجابة لكنّ الطريق إلى إصلاح الفكر الإسلامي ليست هي كما ظن الكثيرون منذ زمن طويل تلك التي توخاها الغرب المسيحي حيث جعل من الاصلاحات الدينية منطلقا للتحرّر الفكري والسياسي بل العكس هو الأصلح عندنا ولا بدّ أولا من تحقيق الرفاه الاجتماعي وضمان المشاركة السياسية الحرة والانفتاح الثقافي. والحقيقة نقول ان ما توفر لبلادنا من استقرار وعمران وتقدم ومن إرادة سياسية صادقة لكفيل بضمان انتصار شعبنا كله لإسلام الأنوار المستجيب لكل مقتضيات العصر الكونية سياسية كانت أم ثقافية حضارية. لكنه أصبح من الملح اليوم أن يتحمل أهل الثقافة والإعلام دورا أكبر في طرح هذه المسائل الجوهرية المتعلقة بتطوير الفكر الإسلامي حتى لا يبقى مجال الاجابة على تساؤلات مجتمعنا الشاب موكولا لفقهاء الاذاعة والتلفزة من داخل البلاد وخارجها. (5) كلمة لا علاقة لها بموضوعنا أهمسها في أذن سيدي الامام الخطيب لأحد مساجد العاصمة. لأقول له إن غضبي لم يهدأ منذ يوم الجمعة الماضي حين دعا في خطبته جمهور المصلين إلى الوقوف بحزم في وجه أبنائهم ومنعهم من الاحتفاء ب«عيد الحب» لأنه ليس من عاداتنا «موش متاعنا» قبل أن يختم منذرا ومتوعدا «وإن تركتم أبناءكم يحتفلون بهذا العيد فيا للعار». أردت أن أرد على الامام الخطيب فأقول له إن دعوته غير مجدية وباطلة لأن لا أحد قادر اليوم على منع أبنائه من الاحتفاء بمثل هذا العيد، وإن الحب ليس له جنسية ولا دين، وإن المسلمين حينما كانوا في أوج حضارتهم لم يستنكفوا من الاحتفاء بأعياد غيرهم وكذلك جعل هارون الرشيد من عيد النوروز الفارسي مناسبة لاحتفالات رسمية في البلاد. أردت أن أقول للشيخ الامام ان لا أخطر علينا اليوم من تكريس شعار «موش متاعنا» لأنه الطريق الأسرع للانزواء والانفصام. أردت أن أقول لكني خفت أن ألغو و«من لغا فلا جمعة له».