بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    أبطال إفريقيا: التعادل يحسم الشوط الأول لمواجهة الترجي الرياضي وصن داونز    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    طقس الليلة    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    بودربالة والسفير الإيطالي يؤكدان ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية تعزيزا للاستقرار في المنطقة    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    أحدهم حالته خطيرة: 7 جرحى في حادث مرور بالكاف    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    عاجل/ في ارتفاع مستمر.. حصيلة جديدة للشهداء في غزة    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دور الفتوى في الحفاظ على الهوية الإسلامية في البلقان : عبدالباقي خليفة
نشر في الفجر نيوز يوم 11 - 10 - 2008

مثلت الفتوى في التاريخ والراهن الإسلامي دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية الإسلامية وفي تقديم الأجوبة الشرعية على الأسئلة التي تستجد في حياة الناس، ولا سيما الأسئلة الكبرى التي تثيرها حوادث الزمان وتعاقبه والمكان بأبعاده وخصوصياته. ولم تكن البوسنة سوى جزءا من تاريخ وراهن المجتمع الإسلامي الذي أدت فيه الفتوى دورا محوريا في الحفاظ على الهوية الإسلامية ، بل وجود المسلمين في المنطقة إسلاميا وديمغرافيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ، ومنذ العهد العثماني 1463 / 1878 م مرورا بفترة الاحتلال النمساوي الهنغاري 1878 / 1919 م ثم المملكة اليوغسلافية 1919 / 1945 م ثم يوغسلافيا الاتحادية 1945 / 1990 م وانتهاءا بدولة البوسنة المستقلة السائرة في طريق الانضمام للاتحاد الاوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي .
لقد مثلت الفتوى في البلقان ولا سيما البوسنة ، طوق النجاة للمسلمين الذين كانت تتقاذافهم الامواج ،وتحيط بهم الأخطار من كل جانب بعد انحسار ظل الخلافة العثمانية . بل كان للفتوى دور حاسم في حقن دماء المسلمين ، عندما تدب الخلافات بين الناس ، أوبين السلطات والمعارضة " إن الاضطرابات السياسية التي حدثت في البوسنة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الحكم العثماني لها ، أدت إلى خسارة كبيرة بين البوشناق الذين كانوا يعدون 694 ألف نسمة سنة 1879م وهذا يعني أن البوسنة قد خسرت أكثر من ثلث سكانها من المسلمين في الصدامات مع المتمردين الصرب أو بسبب الهجرة إلى تركيا "( 1 ) و"أدى هذا إلى خسارة بشرية ضخمة وشاملة للمسلمين في الجزء الاوروبي من الدولة العثمانية في الفترة بين الحرب الروسية العثمانية 1877/ 1878 م والحرب البلقانية 1912 / 1913 م " ( 2 ) أما مساهمة الفتوى في حقن دماء المسلمين وبالتالي الحفاظ على بيضتهم ،فقد تمثلت في عدة أمور ،منها وقف الجدل حول أهمية تنظيم الجيش ولبس البنطلون العسكري ، ذلك الجدل الذي قاد إلى مواجهات عسكرية بين المسلمين البوشناق والعثمانيين ، حيث رفض البوشناق ( 3 ) الإصلاحات العسكرية " واعتبروه تشبها بالكفار " لقد كان المشروع العثماني للتحديث يطبق داخل دولة إسلامية موحدة، ولذا فإن الإصلاحات كانت تقوم على أساس الإسلام، وكان البوشناق قد أقنعوا أبناء دينهم من قبل بأنه ليس من الخطأ أن يكون لدى الدولة جيش أوروبي في زيه وتجهيزاته، وإدارة وقضاء مركزيان وأكثر فعالية في الأداء، ووسائط جديدة للنقل والاتصال ومصانع ومدارس جديدة ( 4 ) ولم يكن ذلك عن طريق نقاش تلفزيوني أو ثورة ثقافية وإنما بفتوى صادرة من ثقة " وفسر مفتي موستار ( 120 كيلومتر شرق سراييفو ) الشيخ مصطفى صدقي قرة بيك الآية الرابعة من سورة الصف "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص" بأن التشيكلات النظامية (للجيش نوع من أنوع البنيان المرصوص) هي ذلك البنيان المرصوص المذكور في الآية الكريمة، وقد أيد مفتي ترافنيك (وسط البوسنة) درويش محمد كوركوت، ومفتي سراييفو محمد حلمي حجيعموروفيتش (آنذاك) تلك الإصلاحات" (5) وكان لتأييد كبار العلماء للإصلاحات دور كبير في تشجيع تجنيد البوشناق في الوحدات النظامية.
الموضوعات التي تناولتها الفتوى ودورها في بقاء المسلمين :
لقد وضع احتلال الامبراطورية النمساوية الهنغارية للبوسنة سنة 1878 م البوشناق أمام مسألة في غاية الأهمية وهي مسألة العيش داخل دولة غير مسلمة، وهل يمكنهم البقاء في وطنهم بعد أن احتلته دولة غير مسلمة، أم يجب عليهم أن يهاجروا إلى الأراضي العثمانية، فإذا قرروا البقاء فما هي واجباتهم تجاه السلطات الجديدة؟ ولم تكن هذه مجرد أسئلة نظرية، بل كانت قضايا تتعلق بالمصلحة القومية الحيوية والوجود الإسلامي في المنطقة. وجاء الجواب للأسر البوشناقية عن هذه التساؤلات، ردا عمليا بالاختيار بين البقاء في الوطن أو الهجرة، إذ بلغ عدد البوشناق الذين هاجروا إلى الأراضي التركية بين عامي 1878 و1918 م حوالي مليون ونصف المليون بوشناقي (6) وآثر الآخرون البقاء في وطنهم محاولين تدريجيا الوصول إلى نمط للعيش في الامبراطورية المزدوجة. "وقد كان هناك عدد من العوامل التي أثرت على التجاوب العملي للشعب مع التحدي ومن تلك العوامل نذكر: فهم الفرد والأسرة للإسلام ودرجة الالتزام بأحكامه، وتأثير العلماء المحليين، والموقف من الاحتلال وغيرها من العوامل. لكني سأركز على الفتوى وما قدمه العلماء المشهورون وتفسيرهم لذلك التحدي والحلول التي قدموها. وقبل أن ننتقل إلى ذلك من المفيد أن نذكر بأن مسألة الهجرة كانت شائعة عند جميع المجموعات المسلمة التي كانت تعيش على أطراف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر. فالتوسع الاستعماري الاوروبي أوجد عند عدد كبيرمن الشعوب المسلمة بعدا جديدا في العلاقة بين الإسلام والدولة مما جعل المسلمين في البلقان والقوقاز ولبنان والهند ونيجيريا وبلاد ما وراء النهر، يسألون عن الفتاوى بخصوص العيش في بيئة غير مسلمة" (7) ولقد استند علماء المسلمين في القرن التاسع عشر في فتواهم التي أصدروها إلى الأعمال الفقهية والآراء المقدمة في الظروف التي كانت تسود العالم الإسلامي في الفترة ما قبل الحديثة، غير آخذين بعين الاعتبار حقيقة أن تقسيم العالم إلى قطبين (دار الإسلام ودار الحرب) كان دائما موضع تشكيك من قبل الحقائق التاريخية ولا سيما أنه منذ القرن الخامس الهجري، أي الحادي عشر الميلادي كانت توجد أعداد كبيرة من المسلمين تعيش تحت حكم غير المسلمين. وبالرغم من مخالفة الواقع للآراء النظرية، بسبب الركود في تطور الفقه إلا أن علماء المسلمين في القرن التاسع عشر ومن جاء بعدهم كانوا مصرين على الاستمرار في استخدام التصنيف الذي كان قد فقد مضمونه التاريخي، فحاولوا تصنيف بعض المناطق الخاضعة لسلطة غير مسلمة، من حيث كونها ما زالت دار الإسلام، أم أنها تحولت إلى دار الحرب، وما هي النتائج المترتبة على وضع بعينه؟ ولم يبحثوا في أنظمتها القانونية وجودة الحياة فيها. وفي نفس الوقت، لم يفهموا بأن دار الحرب ربما لا تشمل فقط البلاد التي يتعرض فيه المسلمون للاضطهاد والذبح، بل والبلاد التي يتمتع فيها المسلمون بقدر كبير من الحريات والأمن العام، وبفرص أفضل للتقدم المستقبلي؛ ومع الاستمرار في تطبيق هذ التقسيم القديم، وعدم مراجعته وإعادة النظر فيه، فإننا نجد لأنفسنا المبرر بأن نسمي هذا الأسلوب بالرد القديم على التحديات الحديثة " (8) ولتحليل الأجوبة الفكرية البوشناقية عن مسألة العيش خارج الدولة الإسلامية، لا بد لنا من التركيز على وضع البوسنة و الهرسك القانوني تحت الإدارة النمساوية الهنغارية حيث تعرض للتغيير منذ سنة 1878 إلى 1908 م وكانت البوسنة من الناحية القانونية جزءا من الدولة العثمانية محتلة من قبل الامبراطورية النمساوية الهنغارية. وفي سنة 1908 م أصبحت البوسنة جزءا من الامبراطورية النمساوية الهنغارية واستمر الوضع على ذلك الحال حتى عام 1918 م .
المؤلفات في الفتوى :
وقد أثرت هذه التغيرات في الوضع الدولي للبوسنة في أجوبة المسلمين عن مسألة العيش تحت حكم غير المسلمين. وتذكر المصادر التاريخية دراستين لوضع البوسنة والهرسك تحت الحكم النمساوي الهنغاري، وذلك من وجهة النظر الفقهية. الدراسة الأولى كتبها مفتي توزلا ( 120 كيلومتر شمال سراييفو ) العالم البوسني محمد توفيق آزاباغيتش Mehmed Teufik Azapagic وكانت بعنوان " رسالة في الهجرة " وقد كتبت هذه الرسالة سنة 1886م. وقد تم تعيينه عام 1893م رئيسا للعلماء في البوسنة واستمر في منصبه حتى عام 1909م وتوفي رحمه الله سنة 1918م في مسقط رأسه توزلا وكان عالما فذا. أما الدراسة الثانية فقد كانت بعنوان " الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيه " بقلم الشيخ محمد رشيد رضا ( 1865/ 1935م ) العالم المعروف رحمه الله تعالى وصدرت سنة 1909م وقد جاءت استجابة لاستشارة من علماء البوسنة وتم اعتمادها مما يجعلها فتوى بوسنية باعتمادها من قبل العلماء البوسنيين الذين وافقوا عليها وعملوا بمقتضاها، وكان لها تأثير قوي على البوشناق. وكما ذكرنا فإن الدراسة الأولى، كانت موجهة من قبل مفتي توزلا ومن ثم رئيس العلماء في البوسنة للعلماء البوسنيين وكانت باللغة العربية. ويؤكد الدكتور فكرت كارتشيتش (9) أن العلماء البوسنيين كانوا يناقشون القضايا الفقهية باللغة العربية "واستمروا على هذا الحال حتى الحرب العالمية الثانية. وبعد أن لقيت رسالة أزاباغيتش قبولا عند المثقفين تمت ترجمتها للتركية التي كان البوسنيون يجيدونها وذلك سنة 1866 ثم للغة البوسنية سنة 1990م ". وتتألف "رسالة في الهجرة" من ثلاثة أجزاء ويبحث الجزء الأول في تعريف الهجرة وتعامل القرآن والسنة معها، بينما يبحث الجزء الثاني عددا من المفاهيم، منها: دار الإسلام ودار الحرب، وتحول دار الإسلام إلى دار الحرب، وتعيين القضاة في المناطق الخاضعة لإدارة غير مسلمة، أما الجزء الثالث فيعالج مفهوم الفتح وتصنيفه ونتائجه. كما تقدم الرسالة مقارنة بين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهجرة البوشناق إلى الدولة العثمانية في زمن المؤلف؛ وتقدم الرسالة في جزئيها الأول والثاني الرأي المعروف للمذهب الحنفي في مسألة الهجرة، ودار الإسلام ودار الحرب. فدار الإسلام في المذهب الحنفي هي الأرض التي تطبق فيها أحكام إسلامية محددة، مثل صلاة الجمعة وصلاة العيد وكذلك تطبيق الحد الأدنى من الشريعة الإسلامية، ولا سيما الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية، وإن كان تعيين القضاة في يد حاكم غير مسلم، وهذا كله كان متوفرا في البوسنة أثناء الحكم النمساوي الهنغاري لها.
أما الهجرة، فإن أزاباغيتش كان يرى عدم وجوبها بعد فتح مكة، بل إنه أكد على عدم صحة قياس هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة نتج عنها نفير المسلمين وعودتهم المظفرة إلى مكة المكرمة. أما هجرة البوشناق فإنها تعبير عن الضعف وخطوة نحوه، مع عدم إمكانية العودة المظفرة، ويشبه المؤلف هجرة البوشناق ببيع الجواهر من أجل شراء الأحجار(10) وكان رأي آزباغيتش الذي صادف رواجا كبيرا في البوسنة، "يختلف عن آراء العلماء العثمانيين في ذلك الوقت، ففي عام 1887م أصدر شيخ الإسلام في إسطنبول فتوى يشير فيها إلى أن حياة المسلمين في الولايات العثمانية المفقودة قد أصبحت لا تطاق وأنه يجب عليهم أن يهاجروا إلى الأراضي العثمانية، وقد تم تشكيل مكتب خاص لرعاية المهاجرين المسلمين تحت إشراف السلطان نفسه" (11) لكن المسلمين في البوسنة، شعروا بأن الدولة العثمانية خذلتهم، وبالتالي فإن الغالبية منهم مالوا إلى فتوى آزاباغيتش وفتوى الشيخ رشيد رضا.
لقد أدرك آزباغيتش أنه لا يمكن فصل الأحكام الشرعية عن مقاصدها ومقتضياتها ولذا امتنع عن إصدار فتوى بالاستناد إلى الكتب الفقهية التقليدية وأخذ بعين الاعتبار واقع المسلمين ومصالحهم الحيوية ومستقبلهم وأهدفهم. ونظرا لكونه مفتيا ورئيسا للعلماء ( للمفتين ) فقد حظي رأيه بمصداقية كافية أدت إلى إضعاف موجة الهجرة من البوسنة إلى الدولة العثمانية.
وفي العدوان الصربي على البوسنة 1992 / 1995م برزت من جديد أهمية الرأي الذي قدمه محمد توفيق آزبغيتش، حيث تعرض البوشناق لإبادة وأجبروا على الهجرة من بلدهم وطلب المأوى في البلاد الأخرى، ومن المشهود به لهذا العالم أنه أول عالم بوسني في العصور الحديثة تعرف على أهمية الأرض وما تعنيه للجماعات الإسلامية في أوساط غير مسلمة (12) أما الدراسة الثانية المتعلقة بالهجرة فكانت لمحمد رشيد رضا الشخصية المعروفة في حركة الإصلاح الإسلامي وصاحب المنار.
لقد أدرك أزاباغيتش أنه لا يمكن فصل الأحكام الشرعية عن مقاصدها ومقتضياتها ولذلك امتنع عن إصدار الفتوى استنادا إلى الآراء الفقهية القديمة، آخذا بعين الاعتبار واقع المسلمين ومصالحهم الحيوية ومستقبلهم و أهدافهم. ونظرا لكونه مفتيا ورئيسا للعلماء فقد حظيت فتواه بمصداقية كافية أدت إلى إضعاف موجة الهجرة من البوسنة إلى الدولة العثمانية.
العلاقة بغير المسلمين:
العلاقة مع غير المسلمين كانت ولا تزال من القضايا الهامة التي تناولتها الفتوى، بما في ذلك منطقة البلقان، ومن ذلك على سبيل المثال، الخدمة في جيش غير مسلم، فبعد التردد بين الهجرة أو البقاء، واجه المسلمون في البلقان ولا سيما البوسنة قضية جديدة تتعلق بجواز العمل في أجهزة الدولة النمساوية الهنغارية الكاثوليكية من عدمه.
وكانت القيادات البوشناقية ولاسيما الدينية تدرك أنه يجب عليهم العمل على وقف تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتبين لهم أن ذلك غير ممكن بدون المشاركة في أجهزة الدولة النمساوية الهنغارية ومؤسساتها، وهكذا بدأ البوشناق الذين كانوا في السابق يقاومون الاحتلال النمساوي الهنغاري بالسلاح، ينتقلون تدريجيا نحو التعاون معه، ولم يكن هناك من حل آخر لضعف عددهم وقلة عدتهم وانقطاعهم عن الأمة. وكان هذا التحول يشبه في طبيعته التحول في التوجه السياسي للصفوة المسلمة في الهند، بعد ثورة 1857 ، حيث اختار سيد أحمد خان ( 1817- 1898 ) وأتباعه تقديم الولاء للعرش البريطاني، بعد أن خذلهم شركاءهم في الوطن، الهندوس. (13) بينما شعر البوشناق بأن العالم كله خذلهم.
ويعتبر تجنيد البوشناق في الجيش النمساوي الهنغاري أول مظاهر التحول في المسار السياسي عند البوشناق وأكثرها حساسية. ففي نوفمبر من عام 1881 سنت حكومة الامبراطورية النمساوية الهنغارية القانون العسكري وفرضت فيه الخدمة الإلزامية مما حرض البوشناق و الصرب على الثورة في الهرسك سنة 1882 تعبيرا منهم عن معارضتهم لهذا القانون (15) وأكد المعارضون أنه رغم الاحتلال، ما يزال البوسنيون من الناحية القانونية مواطنين في الدولة العثمانية، وعليه لا يمكن تجنيدهم الإلزامي في جيش أجنبي، عدا عن ذلك فإن البوشناق طرحوا هذا السؤال من الناحية الإسلامية، هل يجوز للمسلمين أن يخدموا في جيش غير مسلم؟ وقد تصدى مفتي سراييفو الشيخ حلمي حاجي عميروفيتش للإجابة عن هذا السؤال، فأفتى بضرورة احترام البوشناق للقانون العسكري، ونحن لم نعثر عن النص الأصلي لهذه الفتوى بيد أن محتواها الرئيسي قد أعيد كتابته في مراسلات المسؤولين النمساويين الهنغاريين في الثمانينات من القرن التاسع عشر، المتعلقة بالإجراءات التحضيرية لإقامة جهاز إداري ديني للمسلمين في البوسنة (16) وفي الحقيقة فإن وثائق الإرشيف التي تم نشرها تشير إلى أن الحكومة النمساوية الهنغارية هي التي شجعت على إصدار الفتوى (17) وقد تم تعيين المفتي مصطفى حلمي حاجي عميروفيتش في منصب رئيس العلماء، أي زعيم الإدارة الدينية للمسلمين في البوسنة.
وبعد مرور قرن من الزمن على ظهور قضية خدمة المسلمين في جيش غير مسلم كتب باحث في العلوم الشرعية هو سليمان توبلياك كتابا حول الأحكام الشرعية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي، والكتاب يناقش المسألة من وجهة نظر شرعية و استنادا إلى الآيات القرآنية (الأنفال 60) ومقاصد الشريعة واستنتج أن خدمة المسلمين في جيش غير مسلم في الظروف الراهنة ومع وجود نوايا حسنة ليست أمرا جائزا وحسب ، بل إنها ترقى إلى حكم الواجب ( 17 ). ومن القضايا التي احتاج فيها المسلمون في البوسنة إلى فتوى قضية " إقامة المؤسسة الدينية " فقد كانت كل طائفة من الطوائف غير المسلمة في الدولة العثمانية تمتلك ضمن إطار الإدارة الذاتية الدينية، منظمة عامة مستقلة تعرف بالملة، ولقد مكن هذا الأمر الأرثذوكس والكاثوليك واليهود في البوسنة من التأقلم بسهولة مع نظام الحكم النمساوي الهنغاري الذي تم إنشاؤه في البوسنة بعد عام 1878 م فقد كان النظام الجديد يقوم على مبدأ الفصل العضوي بين السلطات الدينية والسياسية، ولذا كان على البوشناق أن يجدوا حلا مؤسسيا يضمن لهم تنظيم شؤونهم الدينية وفق نفس المبدأ؛ ولقد كان العلماء المسلمون مهتمون جدا بتقديم المبرر الإسلامي لإقامة نظام إداري لتنظيم شؤون حياتهم الدينية والأوقاف والقضاء الشرعي ضمن أطر الدولة غير المسلمة.
وقد تم تأسيس المشيخة الإسلامية ومكتب رئيس العلماء في 17 أكتوبر 1882م؛ ولقد تأسس هذا المكتب بمبادرة من الإدارة النمساوية الهنغارية في البوسنة رغبة منها في حجب تأثير الدولة العثمانية على البوشناق بما في ذلك حجب تأثير مكتب شيخ الإسلام الذي كان يمثل أعلى سلطة دينية وتشريعية عند المسلمين السنة. وسمي مصطفى حلمي حجي عميروفيتش رئيسا للعلماء من قبل امبراطور النمسا، وهكذا تمت إقامة القيادة الوطنية الدينية للبوشناق بفتوى داخلية توافقت مع رغبة الاحتلال النمساوي لكنه كان حلا مميزا في جانبين، الأول أن لقب رئيس العلماء الذي أطلق على الزعيم الديني، لم يكن هناك ما يعادله بين مسلمي البلقان في الحقبة التي تلت العهد العثماني. ولقد أخذه البوشناق عن التركيبة الوظيفية في إدارة شؤون التعليم عند العثمانيين، حيث كان لقب رئيس العلماء في بداية الأمر لقبا فخريا يمنح لمفتي اسطنبول، ثم صار يطلق على قاضي روملية، أي الجزء الأوروبي من الدولة العثمانية، وكان مسلموا فلسطين فقط من بين باقي المجتمعات المسلمة قد أطلقوا أيضا هذا اللقب على زعامتهم الدينية أثناء فترة الانتداب البريطاني.
الجانب الثاني: تشكيل مجلس العلماء ليساعد رئيس العلماء في إدارة شؤون المسلمين. أما في دول البلقان الأخرى، في العهد بعد العثماني، فإن الزعامة الدينية للمسلمين كانت تعطى للمفتي، ولذا فإن مجلس العلماء في البوسنة كان في ذلك جهازا فريدا من نوعه لادارة الشؤون الدينية.
إن مفتي سراييفو ثم رئيس العلماء مصطفى حلمي حجي عميروفيتش، الذي كان قد أفتى سابقا بجواز تجنيد البوشناق في جيش الامبراطورية النمساوية الهنغرية قدم لحكومة تلك الامبراطورية الرأي السليم الذي يؤيد تعيين رئيس للعلماء (18) وناقش في فتواه ثلاث مسائل شرعية: المرجع، وتعيين المفتي، وأدء صلاة الجمعة والعيدين، ولقد أكد في المسألة الأولى على أن شرعية المرجع تقوم على شرطين هما قبول وجهاء الشعب له، وتنفيذ الرعية لأوامره؛ وأكد في المسألة الثانية على جواز تعيين القاضي من قبل حاكم غير مسلم، واعتبر أن تعيين المفتي كتعيين القاضي، كما أكد على عدم وجود حظر شرعي في أداء المسلمين لصلاة الجمعة والعيدين وهم تحت حكم غير المسلمين؛ لكنه أوجب على المسلمين أن يطالبوا بتعيين حاكم مسلم وأن تعيين القاضي لا بد أن يكون بموافقتهم (19) ولقد استند مفتي سراييفو إلى ابن عابدين المتوفى سنة 1253 هجرية 1837م والخسكفي المتوفى سنة 1088هجرية 1677م بخصوص فتواه بخصوص تعيين القاضي والمفتي للمسلمين الذين يعيشون تحت حكم غير إسلامي، وأخذ حلمي حاجي عميروفيتش تلك الآرء كسابقة يستند إليها في تعيين الزعيم الديني الأعلى للمسلمين في البوسنة، وبما أن رئيس العلماء يعتبر المفتي الأكبر للدولة فإنه يمكن اعتبار القيادة الوطنية والدينية للبوشناق شرعية، وذلك قياسا إلى جواز تعيين القاضي.
وفي 1909 م نجح المسلمون في الحصول على دستور الإدارة الذاتية للشؤون الدينية والأوقاف والمعارف ونص الدستور على انتخاب رئيس العلماء من قبل المسلمين بدل تعيينه من قبل هرم السلطة الحاكمة.
ومن القضايا التي اهتم بها المفتون والمثقفون البوشناق قضية الخلافة الإسلامية، فقد كانوا ولا يزالون من أنصار توحيد المسلمين في جامعة واحدة سواء بإعادة الخلافة أوضمن تنظيم يشبه الاتحاد الأوروبي؛ ولعل أقوى من تحدث عن ذلك رئيس العلماء جمال الدين تشاوتشوفيتش (1870 – 1938م) والذي انتخب كرئيس للعلماء في عام 1914م. " فقد أدرك العلماء المسلمون أثناء عيشهم تحت حكم غير المسلمين أهمية القيادة الإسلامية العالمية كما أظهرت تجربة البوشناق التاريخية أن غياب القيادة العالمية يؤدي إلى فقدان الأقليات الدينية للحماية الفعالة من تدخل الدولة في شؤونها الخاصة، بل إلى تهديد بقائها " (20).
أهم المفتين:
جميع المفتين الذين تناوبوا على رئاسة العلماء في البوسنة منذ سنة 1882 وحتى اليوم 2008 أدوا أدوارا مييزة، يقول رئيس العلماء الحالي في البوسنة الدكتور مصطفى تسيريتش، كان إلغاء مؤسسة الخلافة في سنة 1924 على يد كمال أتاتورك، وما حدث في سنة 1882 كان متوقعا من قبل، وهو أن مؤسسة الخلافة ستلغى؛ وكان تأسيس المشيخة الإسلامية في البوسنة دليل على ضعف الخلافة دوليا في ذلك الوقت، وقد كان ذلك نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث نمت حركة القومية في أوربا، والشعوب كانت تجتمع على أساس القومية وليس على أساس الدين، لذلك كان هناك واجبا على المسلمين في البوسنة أن ينظموا أمورهم في الشئون الدينية؛ ويسود البوسنة المذهب الحنفي، وفيه أن صلاة الجمعة غير صحيحة بدون إذن الخليفة للخطيب الذي يصعد المنبر، فإذا لم يكن هناك خليفة، ولم يكن هناك شيخ الإسلام، فلا بد أن يكون هناك من ينوب الخليفة منهم؛ فالمسلمون ودارالإفتاء الممثلة في المشيخة، رأوا أنه يجب أن يكون لهم رأس يكون بمثابة الخليفة و شيخ الإسلام لأن الصلاة غير صحيحة بدون ذلك، ورئيس العلماء في ذلك الوقت وإلى اليوم يقوم مقام الخليفة، ومقام شيخ الإسلام.
وفي دستور المشيخة الإسلامية إشارة إلى "أننا سنبقى على هذا الحال إلى أن تعاد مؤسسة الخلافة في الأمة الإسلامية، وحالما تعاد مؤسسة الخلافة نحن سننظم إليها بدون أي نقاش " لماذا ؟ " لأننا نحس بموجب ديننا الإسلامي بأننا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية. ونحن في هذه المناسبة أكدنا و ذكرنا أوروبا أننا مستقلون في شئوننا الدينية، بموجب وجودنا الجغرافي في القارة الأوروبية، ولكن لنا الحق ومصرون على أن أوربا تعلم بأننا منتمون للأمة الإسلامية و ليس لغيرها وأننا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، لها علينا واجبات، ونحن ملتزمون بتبعات انتمائنا إليها؛ هذا لا يمنعنا أن نشترك مع أوربا في علاقات مختلفة لأننا نعيش في القارة الأوروبية، ونعيش ونمارس ونطبق الثقافة الإسلامية، لأن الشمس لا تزال تبزغ من الشرق".
والمشيخة الإسلامية أقدم مؤسسة إسلامية، وهي مؤسسة رسمية في الدولة لها نظام ولها دستور، وهي التي تنظم العمل الإسلامي في البوسنة والهرسك. ولها رأس يدير المشيخة وهي مسئولية أكثر منها وظيفة منصب رسالي كما بينت آنفا, لأن رئيس العلماء لا تعينه الدولة ولا يعينه الملك، وإنما ينتخب من قبل المسلمين، من قبل الشعب؛ والمشيخة لها مدارس، ولها كليات وأئمة ولها جمعيات وخطباء ومفتون. ويقول " أما رؤساء العلماء الذين تعاقبوا على الإدارة الدينية في البوسنة، فقد تعاونوا مع السلطات التي كانت قائمة في زمنهم. بعضهم تعاون أكثر مما يجب، وبعضهم رفض التعاون، لكن جميع رؤساء العلماء كما يقول الدكتور مصطفى تسيريتش قاموا بواجبهم على أحسن وجه وحسب الظروف التي عملوا فيها. " وعلينا أن نعمل على أحسن وجه، وما نستطيع في وقتنا هذا فعله، لكن بعضهم أحيانا حسب فهمنا تعاونوا مع السلطات أكثر من اللازم، لذلك لم تكن تصرفاتهم ترضي المسلمين، لكن عندما نضع الأمور في سياقها التاريخي منذ الاحتلال النمساوي، والاحتلال الصربي (المملكة اليوغسلافية) و بعد ذلك الاحتلال النازي (الكروات) و الشيوعيين، نجد رؤساء العلماء كلهم حكماء هدفهم الحفاظ على الإسلام والبقاء الديمغرافي للمسلمين، وفي نفس الوقت يجب أن يكتب في التاريخ أن المسلمين الوحيدين في منطقة البلقان الذين جاهدوا ضد الحكومات الظالمة للحصول على استقلالهم الذاتي في التعليم والدين بداية القرن العشرين هم البوشناق ".
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية سيطر النازيون على البوسنة وكانت متحالفة مع الاستشاشا الكروات والحكومة الكرواتية الأستاشية دامت أربع سنوات وهي لا شئ بالنظر لعمر المشيخة، وفي فترة السنوات الأربع (1941 / 1944) لم يكن هناك رئيس للعلماء في البوسنة و الهرسك وهي الحقبة الوحيدة التي لم يكن فيها رئيسا للعلماء، لأن المشيخة في البوسنة فهمت المخططات التي كانت تستهدف المسلمين، وكان هناك نائب لرئيس العلماء الذي لم يكن له صلاحيات رئيس العلماء، وذلك حتى لا يتورط في علاقة دنسة مع الحكومة الكرواتية النازية المتحالفة مع أدولف هتلر التي كانت تطلب من المسلمين تأييدها. لذلك سحبوا منصب رئيس العلماء وتركوه شاغرا حتى لا تحصل كرواتيا على مطالبها لأن نائب الرئيس ليس من حقه أن يقوم مقام رئيس العلماء، و يورط نفسه في جرائم قام بها الاستشا وهتلر ضد قوميات عدة، وكانت تلك إحدى الفتاوى التي أصدرتها المشيخة.
وعندما استولى الشيوعيون على الحكم أقاموا نظاما معاديا للمسلمين دون غيرهم لأن الكنائس كانت تتمتع بحرية واستقلالية أكبر بكثير من المشيخة الإسلامية التي تم التضييق عليها، حتى في هذه الظروف استطاعت أن تبقى، لقد ضحت ببعض الأشياء ولكنها استطاعت المحافظة على أمور استراتيجية؛ وقد ولدت في الحقبة الشيوعية و تحديدا سنة 1954 وهذا يعني أن المشيخة الإسلامية استطاعت تكوين جيل شب عن الطوق الشيوعي، و أصبح اليوم من كوادر المشيخة الإسلامية، والدولة البوسنية الجديدة في المجالات الدبلوماسية والسياسية و الثقافية وغيرها؛ وتمكنت سياسة المشيخة من المحافظة عليهم حتى يكبروا ويصلوا إلى أهدافهم التي يعتقدون أنهم حققوا جزءا لا بأس به منها، لم يكن لديهم حرية كافية، وتعرضوا للاضطهاد الديني زمن الشيوعية ولكنهما حافظوا على وجودهم الديمغرافي الذي كان لهم عونا على التحرر من ربقة العبودية الشيوعية سنة 1992، وهذه الجدلية بين حرية العبادة وحرية الحياة حكمت علاقتهم مع الأطراف الاخرى فعندما يحصلون على حقهم في الحياة تصادر منهم حريتهم في العبادة، وعندما يحصلون على حريتهم في العبادة يصادر منهم حقهم في الحياة كما حصل في حرب الإبادة التي تعرض لها المسلمون البوسنيون في تسعينات القرن الماضي؛ وهدف المشيخة هو تحقيق التوازن بين حرية العبادة وحق البقاء، إذا استطاعوا تحقيق هذا التوازن فمستقبل الإسلام واعد جدا في البوسنة و أوروبا.
الحكومة الشيوعية ألغت الدين، ألغت الوقف و المدارس، ومنعوا الآذان، ومنعوا الصلاة حتى في البيت، وحرضوا الابن على التجسس على أبيه والزوجة على زوجها وهكذا؛ كان هذا في بداية الشيوعية ، وكانت القيود تتراخى شيئا فشيئا، و في بداية السبعينات أي بعد 30 سنة من المعاناة حصل انفراج نسبي وبعدها استطاعت المشيخة الإسلامية فتح كلية الدراسات الإسلامية بعد 30 سنة و تحديدا سنة 1977 . و لا يخفى أن الضغوط تؤدي في أحيان كثيرة لتمسك المسلمين بالإسلام أكثر، وهذا ما حصل مع المسلمين إبان الحقبة الشيوعية، ولاشك أن الشيوعية كانت لها تأثيرات مدمرة لا تزال ظاهرة إلى اليوم، وهناك من يرى في " جوزيف بروز تيتو " ما كان يراه بنو إسرائيل في "العجل" ومع أن مظاهر تفسخ موجودة في الشارع البوسني فهناك انتشار للدعوة الإسلامية، وعدد كبير من الشبان والشابات الملتزمات بالإسلام بشكل يعبر عن نفسه في مناسبات، وميادين كثيرة و هذا لم يكن موجودا من قبل وليس له مثيل خلال المائة وست والعشرين سنة الماضية.
الجيل الجديد يعلم كثيرا من تاريخه، ولا سيما ما حصل للمسلمين في الحرب العالمية الثانية مثلا، وهذا كان خافيا علينا لأن الشيوعيين كانوا يمنعون عنا تلك المعلومات؛ ويجد الشباب في الإسلام حماية إلاهية لهم، لأنهم رأوا أن حماية الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية ليس إلا نفاق وكذب، ووجدوا أن الحماية الوحيدة التي يمكن أن يعتمدوا عليها هي الحماية الإلهية؛ ولديهم تجارب شخصية، عندما كانوا يتعرضون لحالات موت محقق ولكن الله كتب لهم الحياة، وكانت الحرب الماضية ضارة نافعة وهي تجربة ثمينة جدا للمسلمين في البوسنة.
الظروف التي وجدنا أنفسنا فيها أثناء الحرب ، حتمت على المشيخة الإسلامية الوقوف إلى جانب أبناء الشعب المظلوم وهو يتعرض للإبادة؛ كان الخطباء والأئمة و طلاب العلم الشرعي في مقدمة من تصدى لعمليات الإبادة، وقتل عدد كبير من الأئمة والطلاب في أثناء العدوان، كما أدى الأئمة دورا بارزا في الحفاظ على هوية المسلمين من خلال نشاطاتهم في محيط المهجرين في دول الجوار والعالم سواء الذين بعثتهم المشيخة للإقامة بين المهجرين أو الذين كانت ترسلهم في المناسبات، كما أدت المشيخة دورا كبيرا في إيصال الغذاء والأدوية إلى المحتاجين عن طريق مؤسسة المرحمة التابعة لها بالتعاون مع الهيئات الإغاثية الإسلامية، وأدت المشيخة دورا كبيرا في التعريف بقضية البوسنة في العالم الإسلامي وغيره من خلال الاتصالات التي كانت تجريها بالتنسيق مع الحكومة البوسنية.
هل اتسع دور الفتوى أم انكمش في تناول قضايا المسلمين :
نظرا لتوق المسلمين الدائم إلى جامعة إسلامية، فإنهم كثيرا ما يطلبون الاستشارة من علماء المسلمين في العالم، كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، ففي أثناء الحرب استجدت قضايا مثل نتائج الاغتصاب، حيث "اعتبرت المشيخة الإسلامية في البوسنة ضحايا الاغتصاب بريآت، كما أعطت للحوامل حق الإجهاض ما لم تزد فترة الحمل عن 120 يوما" (21) كما أفتت بحرمة بيع الخمر ولحم الخنزير بالنسبة للمسلمين وجددت تأكيد تحريم زواج المسلمة من غير المسلم؛ ومنذ تأسيس "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" قبل أكثر من 10 سنوات أصبحت الفتوى في البوسنة مرآة لفتاوى المجلس ومقرارته؛ وكما يلاحظ فإن دور الفتوى يكاد يكون معدوما بعد ضم البوسنة من قبل المملكة اليوغسلافية على إثر الحرب العالمية الأولى، وإلغاء دار الافتاء، ثم خلو المشيخة من رئيس العلماء أثناء الحرب العالمية الثانية، واستيلاء الشيوعيين على السلطة منذ 1945 وحتى 1990.
___________________
( 1 ) D.Mackenzie,The Serbs and Russian Pan-Slavism
1875-1878(Ithaca,NewYork:Cornell University Press,1967
( 2 )P 80 and 81 Justin McCarthy:Ottoman Bosnia 1800-1878
( 3 ) هم سكان البوسنة الأصليون أغلبهم ينحدر من العرق الأليري وهم مسلموا البوسنة والسنجق الذي يخضع للحكم الصربي حاليا، كما أنهم موجودون بأعداد كبيرة لكنهم يظلون أقليات في كوسوفا والجبل الأسود ومقدونيا وألبانيا وتركيا التي يوجد بها نحو 5 ملايين نسمة من أصل بوشناقي.
( 4 ) فكرت كرتشيتش : "البوشناق وتحديات الحداثة "ص 73 إصدار " دار القلم " عام 2004
( 5 ) فكرت كارتشيتش : المصدر السابق ص 48
( 6 ) مصطفى إماموفيتش : الوضع القانوني والتطور السياسي الداخلي .ص 113
( 7 ) Kh.a.Fadl,Islamic Law and Muslim Minorites :The juristic Discourse On Muslim Minorites From the Second /Eight to the Elenth /Seventeenth Centuries ,Islamic Law and Society( 1994) : 145 IBernard Lewis ,Political Language of Islam ( Chicago :University of Chicago Press,1988)104 - 105
( 8 ) نفس المصدر السابق ص 186
( 9 ) فكرت كارتشيتش : مصدر سابق ص 117
( 10 ) محمد موفق الارناؤوط : Muhamad Mufaku al-Arnaut,Islam and Muslims in Bosnia 1878-1918 : Two Hijras and Two Fatwas,Journal of Islamic Studes 5 (1994 ) 2 :250;M.T.Azapagic Risala o hidzri,217
( 11 ) Kemal H.Karpat,The Hijra From Russia and the Balkans the Process ofSelf definition in the Last Ottoman State in Muslim Travellers:Pilgrim-age,Migration and Religion Imagination ,ed.Dale F.Eickelman and James Piscatori ( London:Routledge,1990) 137
( 12 ) البروفيسور محمد فيليبوفيتش : في حوار مع صحيفة أسلوبوجينيا البوسنية في 1 ديسمبر 1996 م ص 29
( 13 ) محمد فيلوبوفيتش مصدر سابق نفس الجريدة و الصفحة
( 14 ) Aziz Ahmad Islamic Modernism in India and Pakistan 1857-1964(Oxford University Press ) 31
( 15 ) حمديا كابيجيتش : تمرد الهرسك سنة 1882 م ص 41
( 16 ) عمر تاكيتشيفيتش : التطور التاريخي لمؤسسة رئاسة الجماعة الإسلامية في البوسنة ( إصدار المشيخة الإسلامية سنة 1996 ص 83
( 17 ) فكرت كرتشيتش مصدر سابق ص 123
( 18 ) سليمان محمود توبيلياك : الأحكام السياسية للاقليات المسلمة في الفقه الإسلامي ( عمان دار النفائس 1997 ص 194 )
( 19 ) فكرت كارتشيتش : مرجع سابق ص 133
( 20 ) المرجع السابق ص 153
( 21 ) حوار مع رئيس العلماء الدكتور مصطفى تسيريتش ، نشر على موقع الإسلام اليوم سنة 2003 م أجراه الباحث .

عبدالباقي خليفة
11/10/1429
11/10/2008

الإسلام اليوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.