مهنة الفطائر صناعة غذائية عرف بها أبناء غمراسن منذ قرون.. فمن يذكر الفطائر يتذكر حتما غمراسن.. ومن يأتي على ذكر بلدة غمراسن لا بُدّ أن يتذكّر المهنة العريقة التي عُرف بها أبناء غمراسن في الداخل والخارج: وهي «الفطائر».. حتى أصبحت هذه المهنة في تقاليد أهل البلدة وجزءا من تراثهم.. ثنائية طريفة في تميّزها وتفرّدها اختصّت بها بلدة بالذات بين سائر المدن ومهنة وحيدة دون باقي المهن والصناعات الغذائية.. وللحديث عن غمراسن و«فطائرها» بقية سنتناولها في مناسبات لاحقة إن شاء اللّه.. أما الآن فقد خصّصنا لقاءنا هذا لحرفي من محترفي هذه المهنة.. ليس غريبا أو عجيبا أن يشتغل شاب في غمراسن بصناعة الفطائر!.. بل العجيب والغريب أن لا يكون الغمراسني فطائريا!.. ولكن العجيب فعلا هذه المرة بل الأعجب!.. أن تنبري فتاة من غمراسن بمفردها وتبادر بفتح دكان لبيع الفطائر.. فتعجن العجينة وتدير الفطيرة في الطاجين بحذق ومهارة قل أن يجيدها غيرها!.. أضف الى ذلك ما يتبع الفطيرة من حلويات أخرى.. رمضانية وغيرها ك«المقروض» و«اليويو» و«المخارق» و«المقرقشات» و«قرن الغزال» أو «المحشي» المحشو باللوز والجلجلان.. سمعت عنها أولا ثم رأيتها بأم عيني فدفعني الفضول لزيارتها في دكانها.. استقبلتني بترحاب وسلمت ببشاشة وأفسحت لي مكانا للجلوس وأجابتني عن أسئلتي بثبات وثقة وحياء.. فتمخض لقاؤنا عن هذا الحديث الذي أردت أن أمتع به قراء جريدة «الشروق» الغراء!.. هل لك أن تقدمي نفسك لقراء جريدة «الشروق» فالفكرة طريفة وجديرة بالاهتمام.. فهذه أول مرة أرى فيها فطائرية مْعَلْمَهْ؟!.. سالمة الناجح، فتاة من غمراسن.. تلقيت تعليمي الابتدائي بمدرسة المظيلة بضواحي غمراسن.. ورغم نجاحي في دراستي لم أواصل تعليمي الثانوي لظروف خاصة.. فاضطررت للمكوث في المنزل عاطلة عن كل نشاط لمدة بضعة أشهر.. كيف تولدت لديك فكرة الاشتغال والعمل وأنت في سنّ مبكرة خاصة بعدما يئست من مواصلة الدراسة لظروف قاهرة..؟ لم تكن هذه المهنة هي الصناعة الأولى أو الوحيدة التي تعلمتها.. بل، وبحكم صغر سنّي، قد تفرّغت في البداية لتعلّم صناعة تقليدية هامة، هي صناعة الزربية.. وكان ذلك عن طريق «اتحاد المرأة التونسية» متمثلا في السيدة اللقماني التي يسرت لي كل السبل مشكورة.. وتخرجت بعد ثمانية أشهر بشهادتي. أعتقد أنه تحول مفاجئ أن تنتقلي هكذا من صناعة الزربية الى صناعة الفطائر.. فما السرّ في ذلك؟.. رغم أنني أحمل شهادة في صناعة الزربية كما قلت إلا أنني لم أفرح بها كثيرا.. فقد لاحظت أن هذه الصناعة منتشرة كثيرا ونساء كثيرات يمارسنها تماما مثل الحلاقة والفصالة والتطريز وفي بلدة صغيرة مثل بلدتنا.. لذلك وجهت اهتمامي الى صناعة هي الى الآن حكر على الرجال.. وقلت في نفسي لماذا لا أجرب حظي.. خاصة وأن الشباب عندنا أبدوا عزوفا عن هذه المهنة ولا يفكرون سوى في الهجرة ولم تعد تستهويهم مهنة الفطائر.. وهكذا تولدت لدي الفكرة.. كيف كانت البداية فلا شك أن الانطلاقة كانت صعبة بعد هذا المنعرج الكبير من التخصص الى مهنة رجالية تجهلينها تماما..؟ في هذه المرة خدمتني الظروف والحمد للّه.. فقد عرض علي أحد أصدقاء العائلة وهو يعمل فطائريا أن أعمل معه كمعينة ومنظفة في المحل ولم تكن مهمتي تتجاوز التنظيف والصيانة.. غير أنني من مجرد ملاحظة الصنّاع وهم يعدون الفطائر وأصناف الحلويات شغفت بهذه المهنة.. وبدأت أحشر نفسي في بعض الأعمال وأساعدهم تطوعا مني.. وشيئا فشيئا بدأت أتسلّل الى صفهم وأصبحت واحدة منهم.. أعدّ ما يعدّون وأحضّر ما يحضّرون.. نعم.،. أعرف أن حُبّ المهنة التي نمارسها يفعل الأفاعيل والغرام بالعمل والشغف به مآله النجاح والتوفيق.. لكن كم دامت فترة التعلم والتربص هذه؟ (استندت قليلا الى الوراء.. وأخذت نفسا عميقا حاولت به حنق تنهيدة.. ثم شردت قليلا، تسترجع ذكريات شريط الكدّ والجهاد والصبر والاصرار على تحقيق أحلام مشروعة تراودها.. وأجابت): هذه الفترة.. فترة التعلم والتربص دامت طويلا.. فإذا كنت قد تعلمت صناعة الزربية في ثمانية أشهر.. فإني قد قضيت (11) سنة لتعلم صناعة الفطائر!.. وكما ترى لا مجال للمقارنة بين الفترتين ولا بين الصناعتين.. دون اعتبار لأي أفضلية طبعا.. وهذه السنوات الاحدى عشر قضيتها مع ثلاثة أعراف وجيش من الصناع.. ولما فيها من تنوع وتكامل تعلمت فيها الكثير والحمد للّه.. وبفضلها أنا «العَرْف» الآن في هذا المحل.. لا شكّ أن هناك من شجعك على «مغامرتك» أو ربما من حاول أن يثنيك عن مشروعك واعتبر ذلك تهورا فهل تذكرين شيئا من ذلك؟.. (ابتسمت ابتسامة لطيفة.. واعتدلت في جلستها) وأجابت: طبعا.. إنها الحياة لا بد أن يكون فيها هذا وذاك.. فيها من يشجع ويشحذ العزيمة ويدفع الى الأمام.. وفيها أيضا من يحبط المساعي ويضع العراقيل ويزرع الشوك في معابر السالكين.. إنها حكمة ربنا فينا معشر البشر وفي هذه الحياة العجيبة التي كتب علينا أن نعيشها بحلوها ومرّها وخيرها وشرّها.. لذلك وإيمانا مني بهذا الواقع فقد أقدمت على تنفيذ مشروعي وتحقيق حلمي كما يحدوني أمل كبير في المستقبل وثقة في النفس بلا غرور.. دون أن أنسى كل من مدّ إليّ يد المساعدة ووقف الى جانبي وأعانني ماديا ومعنويا وفي مقدمتهم والدي العزيز وشقيقاي «ضو» و«عز الدين» وكل الأعراف الذين عملت معهم وتعلمت منهم أسرار هذه المهنة وخباياها.. وبهذه المناسبة اغتنم هذه الفرصة لأقول لمن «لم يتحمسوا لمشروعي» لا أقول أكثر سامحكم الله واعلموا أن الأرزاق بيد اللّه.. وأن هذه المهنة الشريفة ليست حكرا على أحد.. وأنّ المنافسة الشريفة في العمل لا تثمر إلا خيرا.. أهنّئك بالنجاح في مسعاك وأرجو لك التوفيق في كل مشاريعك وكم أتمنى أن تكوني قدوة ومثالا يحتذى للخائفين والمتردّين من أبناء جيلك وشباب تونس عامة في زمن ندرت فيه مواطن الشغل عالميا.. فماذا تقولين في الختام؟ أقول لشباب تونس الذي يتهيأ لمواجهة الحياة: ما تعلمته في المدرسة وما مارسته في الحياة: «من زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل» وشكرا لكم على اعتنائكم وتفضّلكم بالزيارة وتحياتي القلبية الى جريدة «الشروق» الغراء وقرائها الكرام..