يعتقد البعض أنّ من التجارب الإبداعيّة ما «قُتِل» قراءةً وتأويلاً وبحثًا وتحليلاً حتى لم يعد أمام الخَلَفِ جديدٌ يضيفه إلى ما قاله السلَف...وكثيرًا ما يُضربُ المثَلُ في هذا السياق بأعمال محمود المسعدي والبشير خريّف وعلي الدوعاجي وأبي القاسم الشابّي...وهو اعتقاد شديد التهافت يتضمّن استخفافًا بقدرة الأثر الإبداعيّ على الاستمرار في إنتاج المتعة والمعنى مهما تقادم به الزمن...كما أنّه اعتقاد يتضمّن سوء ظنّ أصحابه بقدراتهم، ورغبتهم في تحويل ضيق أُفُقهم و«قصورهم الذاتي» إلى حالة عامّة يشاركهم فيها الجميع. تبنّى الكثيرون هذا الموقف في السنوات الأخيرة...داعين إلى الكفّ عن الاهتمام بالتجارب المذكورة باعتبارها «آبارًا» عطلت نقديًّا...منادين بضرورة الالتفات إلى تجارب وأسماء أخرى لم ينصفها النقد ولم تواكبها القراءة...وهو كلام سليم في شقّه الثاني، لكنّه مردود على أصحابه في شقّه الأوّل، بدليل القراءات التي ما فتئت تكذّبه عن طريق اختلاف الرؤى والمناهج وتنوّع زوايا النظر...ومن بين القراءات الطريفة الممتعة المندرجة في هذا السياق، تلك التي أتحفَنا بها لطفي الشابي في روايته «ما لم يقله الشاعر» الصادرة أخيرًا (تونس 2009. 200ص). بعد مرور مائة عام على رحيله، يعنّ لأبي القاسم الشابيّ أن يطلّ علينا من جديد، فيختار سميًّا له، هو في الوقت نفسه أحد أصدقاء الكاتب، ويوجّه إليه رسالة إلكترونيّة عن طريق الحاسوب، يقول فيها «إنّ في حياته أحداثًا كثيرة، وإنّه حين يسترجعها الآن بعد هذه الهدأة الطويلة، يرى أنّها يمكن أن تُختَزلَ في ستّ محطّات كبرى، سيحدّثنا عنها كما لم تحدّث بها تلك الكتب التي كتبت سيرته وادّعت امتلاك الحقيقة الكاملة حول حياته القصيرة، وتاجرت بها...ص17». تلك هي «لعبة» هذا الكتاب الأساسيّة، وبنود «الميثاق» الذي يلزم به نفسه تجاه قارئه...على خلفيّتهما ينوّع الكاتب زوايا «التبئير» على امتداد الأقسام الخمسة، المسبوقة بمجموعة من العتبات والمذيّلة بملحقين...وعلى أرضيّتهما يعدّل أوتار السارد والناقد والأستاذ والشاعر والمحقّق فيه...فإذا نحن نضع يدنا في يد الشاعر الراحل ونطلّ معه على زوايا حياته وعصره المضيئة والمعتمة، الكائنة والممكنة، لنطلّ على ما أضاء وأعتم في حياتنا وفي عصرنا...مسترقين النظر إلى الكثير من تفاصيل شعره وحياته، التي باتت مكشوفةً معروفةً، لكنّ السرد يمنحها مذاق الجدّة عن طريق انتخابها وصياغتها، كما هو الشأن عند مواجهة تفاصيل حياتنا...طارحين معه وعليه العديد ممّا ظلّ مكبوتًا مُعلّقًا من الأسئلة، هي في النهاية أسئلتنا المكبوتة المُعلّقة... لعبة ما كان للطفي الشابّي أن ينجح في إدارتها، وميثاق ما كان له أن يوفّق في الالتزام به، لولا جهده الخارق في البحث والتوثيق والاطّلاع على كلّ ما يتعلّق بموضوع كتابه...ولولا اشتغاله على لغته بحيث استطاع أن يقبض بها على سجلاّت متعدّدة، تمنح طعمًا مختلفًا لما يجري مثلاً على لسان الشابّي الشاعر وما يجري على لسان الشابيّ المؤلّف. في هذه الرواية نحن أمام رحلة حسيّة ماديّة، واقعيّة عجائبيّة، تمزج بين السرد والشعر والتخييل والتوثيق، لتعيد قراءة سيرة الشابيّ الذاتيّة وكأنّها نصّ إبداعيّ، مع ما تفضي إليه القراءة من تأويل، ومع ما يعنيه التأويل من إعادة كتابة...لنكتشف في النهاية أنّ «لعبة المنطلق» التي تتمثّل في تعدّد حَمَلةِ اسم أبي القاسم الشابّي، ومن بينهم الكاتب الذي يشاركه اللقب، ليست سوى كناية عن «تعدّد» الشابيّ نفسه، بعيدًا عن الصورة النمطيّة المصقولة التي استمات البعض في جعلها تصلنا لامعة برّاقة لا خدوش فيها، وكأنّنا أمام كائن نورانيّ ولسنا أمام بشر. رواية طريفة ممتعة، تُضاف إلى الأعمال التونسيّة النادرة التي تناولت حياة أحد مبدعينا لتحاورها مسرحيًّا أو سينمائيًّا أو روائيًّا...وعلى الرغم من أنّها باكورة لطفي الشابّي، فإنّ فيها ما يجعلنا مطمئنّين إلى أنّها تبشّر بالمزيد.