ما المشكلة في ان تكون بلاد المطربين اوطاني. من منا لا يفخر بانه من بلاد فيروز ووديع الصافي، ام كلثوم وعبد الوهاب، عبد الحليم وفريد،صباح فخري وناظم الغزالي.؟ من منا لا يفخر بان جيله وجيل اولاده يضم عددا من الفنانين الكبار الممتدين من المحيط الى الخليج؟ واذا كانت حضارة الامم تقاس بمستوى فنونها كما يقول انطوان سعاده، فان النغم والكلمة يمثلان جزءا كبيرا من الفنون. اين تكمن المشكلة اذن ؟ في اقبال الشباب على المطربين وعلى الجديد؟ لا. في الطرب بحد ذاته ؟ لا. لان الانسان يولد مطبوعا بحب الفنون وبالنغم، ألا تغني لنا امهاتنا كي نهدأ وننام؟ في اقبال الشباب على الجديد؟ لا. لان الشباب دائما يريد التغيير. اولم تقم اول ملحمة في تاريخ الانسانية : الاينوما ايليش على فكرة صراع الالهة الشابة بقيادة مردوخ مع الالهة العجوز بقيادة تعامة، والسبب ان الشباب يريدون التغيير والحركة في حين لا يريد الكبار الا الهدوء وبقاء الحال. المشكلة اذن في وجود الرديء؟ لا، ايضا. لان الرديء كان دائما موجودا، حتى في مراحل النهوض؟ المشكلة هي في سيادة الرديء، في غياب التوازن، في تحطيم منظومة القيم الاجتماعية لصالح منظومة منحطة لا لصالح التطور الحضاري، اضافة الى طارىء خطير هو عنصر الصورة الذي دخل كل غرفة سواء بواسطة التلفزيون او بواسطة الانترنت ؟ عنصر اول يكمن في مشكلة غياب التوازن.، ولنذكر كلنا اننا كنا نضع في غرفنا وعلى دفاترنا صور مطربينا المفضلين، ونرقص على اغانيهم، لكننا كنا نضع ايضا صور رموز تلك المرحلة : غيفارا وعبد الناصر وابو عمار وليلى خالد وكاسترو، وكذلك نضع صور مي زيادة وجبران والسياب ونزار. فلماذا لم يعد لمرحلة الشباب هذه هذا النوع من الرموز؟ يقول ابن المقفع : ليكن يومك اربع ساعات : ساعة لعملك وامور دنياك ، ساعة لناسك ، ساعة لامور اخرتك، وساعة لمتع الحياة التي تساعدك على قضاء الثلاث الاخرى. فهل يعيش شبابنا فعلا هذا التوازن بين الساعات الاربع؟ هل فعلا ان اسلوب تقديم الرابعة يساعد على الثلاث الاخريات؟ ام انه يعمل على تحويل الشباب الى مخلوقات رخوية ضائعة عاجزة عن اداء ادوراها الثلاثة الاخرى. فبدلا من ان توظف متعة النغم، المشروعة والطبيعية الى وسيلة تنمية للحس الجمالي للحس الوطني للحس الاجتماعي الصحيح، تشكل المضامين والاشكال والمستوى الذي تقدم به عاملا مدمرا. انها مشكلة مرتبطة بمنظومة القيم وبطبيعة المرحلة. وعندما نقول منظومة القيم فاننا لا نعني بها فقط المعتقدات وانما ايضا مستوى الذائقة الفنية. والسؤال : اين يبنى كل من هذين؟ في الاسرة، في النظام التعليمي،في الثقافة،في الاعلام، في الاقتصاد والسياسة. اين نحن في النظام التربوي؟ اين نحن من الثقافة العضوية؟ اين الثقافة في الاعلام؟ اين الثقافة في سلم الاحترام الاجتماعي؟ اين نحن في الاقتصاد؟ اين نحن سياسيا؟ نحن في عصر الهزائم والفساد والاحتلالات. ونحن في عصر اقتصاد السوق الذي يقوم على تحويل الفرد من مواطن الى مستهلك وبالتالي على تحطيم الخصوصيات الثقافية، على التنميط، على كسر الحدود ومفهوم السيادة وعلى تحطيم منظومة القيم. عصر تصبح فيه القيمة الاولى للمال، المال يصنع كل شيء، حتى الجمال وحتى الصوت الذي يصفى عن طريق التكنولوجيا. عصر الكسب السريع :عن طريق الفساد والمضاربة التي لاتوفر الفن ففي اشهر تصبح المغنية مليونيرة دون موهبة ودون انجاز وتعمل الصحافة الفنية على تسويق ذلك لتحولها الى حلم لكل الفتيات. كما تسوق المغنين الشباب الذين يقدمون بصورة مائعة سطحية ومبتذلة. مما يذكّر بمقولة حامل جائزة نوبل للاقتصاد : الان كوتا : ان تصاعد الفساد غير منفصل عن تصاعد الاعمال المالية والاعلام، وخاصة برامج التسلية . فعندما يسمح الاعلام وخلال فترة قصيرة وربما دقائق ببناء ثروة لا يمكن بناؤها خلال عمر من العمل الدؤوب، يمكن ان يربح بالمضاربة اربعين مرة ما يمكن ان يربحه بالانتاج. وحتى بالانتاج التجاري العادي. تذويب حس المواطنة يستكمل بثقافة الزي الموحد، التنميط، الحداثة المشوهة بتلبس الاحتقار واللامبالاة بكل ما هو قيم. يتعمق لديه الكبت فيلجا اما الى الاغتراب السلبي عن كل شيء في واقعه واما الى التطرف والاصولية والعنف. وعندما يتشيأ كل شيء ليتحول الى سلعة ويصل هذا التسليع الجسد البشري بحد ذاته، فان القيمة الانسانية نفسها هي التي تسقط. وتعم التفاهة في كل المجالات، لتحقق سيطرة السوق والعولمة متعددة الجنسيات ماليا والامريكية سياسيا. واقع قد يقال بانه عالمي، ولكن خطره يتفاقم عندما يكون المجتمع المعني واقعا تحت ظروف خاصة، من احتلال واطماع واحلال اسرائيلي وفساد اداري وسياسي، يجعل من التهديد امرا يتجاوز تهديد التطور الى تهديد البقاء بحد ذاته. وبعد ان كانت القوى الاستعمارية تبذل جهدا كبيرا من الابهار والضغط والقوة والافساد لتصل الى اجبار النخب والطبقات الحاكمة على تغيير وتكييف البنى الاجتماعية لتتوافق مع قيم العولمة وهيمنتها، كما يقول هيربرت شيلر، فان تقنيات الاتصال باتت تجعل النخب والشعوب تتجه الى الامبراطورية لخدمتها، كما يتباهى محامي الهيمنة الامبراطورية نيال فيرغسون. غير ان هذا الواقع المظلم ليس عاما، ولحسن الحظ، فقوى المقاومة موجودة، ولولا ذلك لما شهدنا ما نشهده في لبنان وفي فلسطسن وفي العراق. بل وفي صفوف الشباب المثقف والذي ينتمي الى طبقات ميسورة نسبيا. لكن المصيبة، انه وبدلا من ان تتمكن هذه القوى الشابة المقاومة من التحرك لقيادة المرحلة مدعومة بشعبها واجيالها، فانها مضطرة لان تخوض حربها على جبهتين : جبهة الخارج وجبهة الداخل المنحل المستسلم المغترب عن كل قضاياه، بل والذي يعتقد انه اكثر رقيا وحضارة اذ يتجاوز هذه القيم وهذه القضايا.