لم أعرف الشاعر صالح خليفة بصفة مباشرة الا في أواخر عهدي على رأس المندوبية الجهوية للثقافة والمحافظة على التراث بالمنستير ذلك أنه يأبى البروز في المناسبات او التظاهرات الفكرية لأنه كان ومايزال منهمكا في الكتابة والانتاج الأدبي، شأنه شأن كل المبدعين الخلّص الذين يفضلون الاختلاء لا لغاية الانطواء على النفس بل لأن الانزواء ضروري للتركيز والتفكير والابداع. عرفت الشاعر صالح خليفة أوّلا عن طريق أصدقاء معجبين به من أهل الثقافة ولما أتيحت لي الفرصة للتعرّف اليه تمكّنت حقا من اكتشاف هذا الرجل الذي لم أجهد نفسي مطلقا لتصنيفه ضمن النخبة أو فئة المبدعين الفطاحل نظرا الى جوانب طريفة تميّز شخصيته وخطابه عن الشعر عموما والشعراء الفرنسيين خصوصا. قد تبدو رباعيات (Poésie phallique) أي شعر الفحول عند الاستماع لها تكرارا لأبيات مموسقة على نفس النسق ولكن عند التأمّل فيها عن كثب تكشف كلمات أخرى تدفع بك الى أفكار أخرى ومواقف أخرى ومراجع مختلفة غريبة عجيبة كقوله مثلا Vantard S'alarmes, Vend tard Sale arme يخيّل الى السامع أن الشاعر يردّد نفس العبارات فيظنّ أنه يعبث باللغة ويظهر المعنى بكل جلاء عند القراءة ولنسق مثالا ثانيا: Mi-roi tente Mir, oit tante Miroitante, Miroite ente في هذه الرباعية كل الأبيات متناغمة مطلقا مع بعضها البعض مما يزيد السامع حيرة على حيرة فما هذا الاسلوب؟ مي روا تانت / مير واتانت / ميرواتانت / ميرواتانت». وفي هذا المثال ايضا يظهر المعنى بوضوح تام عندما نقرأ أبيات الرباعية الواحد تلو الآخر، وجب تقطيع الجمل المموسقة حينئذ: ميروا (نصف ملك) تانت (= يحاول...). ولنأت بمثال ثالث: Le Nord ment Dans sa chair, Le Normand Dansa cher. فالاستماع وحده لا يجدي نفعا ابدا ذلك ان كل الرباعية تبدو مبهمة غاية في الغموض فموسيقى فوقها موسيقى وتحتها موسيقى، هذا ظاهر الاشياء اما القراءة المليّة فتعطي للرباعية معناها: الشمال يكذب على الفطرة، أهل نرمنديا رقصوا رقصة غالية لذلك عند اطلاعي على هذا الديوان Poésie phallique استنتجت أن صالح خليفة هو شاعر التحدي إذ تحدّى الفرنسيين بقدرته العجيبة على امتلاك لغتهم فطوّعها كما شاء وأراد، ألم ينظم 250 ألف بيت شعر بهذا اللسان؟ احتوى هذا الديوان وحده 9000 بيت جاءت بأسلوب موسيقي عجيب فريد لم يكتب به أحد من قبله أبدا بهذه الغزارة ولا بهذا العمق والثراء. إن هذا الرقم من دون شك رقم غير عادي، أعتقد أننا لو جمعنا كل الابيات الشعرية التي نظمت في حقبة زمنية ما باللغة الفرنسية ما استطعنا ان نرقى الى هذا العدد المذهل الشيء الذي يجعلني أتحدى كل من يدّعي المعرفة باللسان الفرنسي ان لا يرجع الى أفضل المناجد ليفهم معاني ما تحتويه المفردات والعبارات المسطورة في رباعيات «Poésie phallique». هذه المفردات والعبارات الفرنسية في فكر صالح خليفة أخالها في ازدحام واضح وحركيّة دائمة فهي تقترب من بعضها بعضا حينا لتلد كلمات وعبارات أخرى وصورا جديدة فالعنوان نفسه يرمز الى phallus أي الى الذكر، عضو الفحولة، سبب التناسل والتكاثر والتطوّر. أما خلاصة القول فإن صالح خليفة شاعر يختلف عن الشعراء الذين تربطني بهم علاقة صداقة او الشعراء الناطقين بالعربية أو الفرنسية الذين شاركوا في الامسيات الشعرية والأدبية التي نظمناها في اطار المندوبية الجهوية للثقافة بالمنستير التي أدرتها طيلة عشرين سنة فلم اعثر خلالها على من هو أفصح منه ولا عمّن هو أشعر منه ولا عمّن يتمتع بخيال أخصب من خياله ولا عمّن له معرفة أوسع وأعمق بعديد من العلوم الانسانية وأنا على يقين من أن القارئ سوف يدرك ما قاله فيه فطاحل المفكرين من قبلي مثل Michel Foucault وAimé Césaire وL. Sédar Senghor. هذه الحقيقة التي أدركتها بعد اطلاعي على هذا الشعر من خلال Poésie Phallique تجعلني أؤكد أن صالح خليفة يكتب روائع أدبية سيكتب لها الخلود.