بقلم: أبو السعود الحميدي (اعلامي) ليس صعبا على المتابع للأوضاع الفلسطينية أن يلاحظ أن عديد العناصر السلبية تتطور في اتجاه التنامي بشكل متزايد: فمن تكثف للاستيطان الى تسارع لنسق تهويد القدس، ومن احكام للحصار على الأراضي المحتلةوغزة بالذات الى تدهور لأوضاع الفلسطينيين في المخيمات خارج فلسطين. كل ذلك في ظل انقسام فلسطيني ملحوظ وضعف للسند العربي وتخلّ للإرادة الدولية عن أي دور فاعل. وإننا لنعجب من هذا الوضع الذي يختلف الى حد كبير مع القضايا والازمات الدولية الأخرى (استقلالات الدول المستعمرة، قضية السود في أ مريكا، النضال ضد نظام الميز العنصري في جنوب افريقيا) أو حتى مع تطور القضية الفلسطينية خلال الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين: حيث كانت هذه القضايا والازمات تحمل خليطا متداخلا من العناصر الايجابية والعناصر السلبية التي كانت في نفس الوقت تحفز على الأمل وتدفع الى التشاؤم، وتعطي في كل الحالات للقيادة وللارادة الدولية مجالا للمواجهة والحركة المريحة وتتيح فسحا من الزمن لانضاج بعض الأوضاع وتمنح للشعوب التي تعاني من القمع والاضطهاد مناسبة للحلم والأمل. واننا في هذه العجالة سنسعى الى تناول احدى هذه الحقائق السلبية المتمثلة في الاستيطان لنرى «تاريخيتها ووزنها في تعقيد اوضاع القضية الفلسطينية خصوصا باعتبارها الحقيقة الأكثر بروزا في الواقع الفلسطيني والأكثر ضغطا على آفاق تطور العملية السلبية. 1 الاستيطان الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة تركز خلال العشر سنوات الأولى (1967-1977) بعد هزيمة جوان 1967 وفي ظل حكم العماليين على ضم المناطق التي اعتبرتها السلطة الاسرائيلية وقتها «ضرورية لتعزيز أمن دولة اسرائيل» ومناطق أخرى للمساومة بها في مفاوضات لاحقة مع الجانب العربي، الى جانب تركيز بؤرة استيطانية في مدينة الخليل منذ سنة 1967. وعلى هامش هذه «السياسة» الاستيطانية بدأت منذ 1970 تتشكل أولى «المستوطنات» العشوائية أو غير القانونية التي كان يقيمها غلاة المتطرفين اليهود وزعماء الحركة الدينية. 2 شكل مشروع «توحيد القدس» منذ احتلال القدسالشرقية سنة 1967 مدخلا لتهويد المنطقة العربية وتغيير معالمها الجغرافية والديمغرافية من خلال دفعها الى التطور لا في اتجاه المدن العربية المجاورة لها بل في اتجاه المدن الاسرائيلية وإدارة ظهرها للمجال الجغرافي العربي في الضفة الغربية والحال ان أكثر من 180.000 مستوطن يسكنون القدسالشرقية في احصائيات 2008. 3 شهد سنة 1977 صعود اليمين الاسرائيلي الى السلطة في اسرائيل وبداية المفاوضات مع مصر من أجل عقد اتفاقية «مخيم داوود» وابرام صلح مصري اسرائيلي. وقد برزت في هذه المرحلة عناصر جديدة أهمها: طرح مبدإ التعويض للمستوطنين اليهود في شبه جزيرة سيناء بعد انسحاب اسرائيل وذلك أثناء المفاوضات الاسرائيلية المصرية. التفات اسرائيل الى الخزان البشري لليهود في الاتحاد السوفياتي لحثهم على الهجرة الى اسرائيل لتعزيز الدولة والسعي لخلق واقع جديد من التوسع الاستيطاني بضم الضفة الغربية بكاملها وقطاع غزة تحت شعار «أرض اسرائيل». 4 كانت هجرة اليهود السوفيات منذ 1970 بقوانين الحرب الباردة وبالعلاقات الأمريكية السوفياتية. وقد استفادت إسرائيل من الانفراج في العلاقات بين العملاقين خلال السبعينات بسماح الاتحاد السوفياتي بهجرة 130.000 يهودي واستقرارهم في اسرائيل. ورغم ان نهاية السبعينات قد شهدت تصاعد التوتر بين العملاقين بعد غزو الاتحاد السوفياتي لافغانستان ودخول الحرب الباردة مرحلة جديدة أكثر خطورة تمثلت في سباق محموم على التسلح من شأنه أن ينهك الاتحاد السوفياتي ويستنزف موارده، فإن القيادة السوفياتية عاودت السماح للسوفيات بالهجرة الى اسرائيل أملا في عرقلة الاتفاق المصري الاسرائيلي في «مخيم داوود» وخصوصا الجانب الذي يخص منه تكريس الحكم الذاتي الفلسطيني. ولكن هذا المخطط لم ينجح في جانبيه: حيث قاطع الفلسطينيون المفاوضات ولم يكتب للحكم الذاتي أن يتحقق في ظل مقاطعة عربية شاملة لمصر أنور السادات من ناحية ، وتجنب اليهود السوفيات الاستقرار في اسرائيل وتوجه تدفقاتهم الى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية من ناحية أخرى. وعلى سبيل المثال غادر في شهر ماي 1978 الاتحاد السوفياتي 1169 يهوديا استقر منهم 109 فقط في اسرائيل. 5 اكتفت اسرائيل باستقبال من يريد ذلك، وظهرت في الافق أزمة بين المنظمات الصهيونية الامريكية التي كانت تدافع عن حرية اختيار اليهود السوفيات لمواطن اقامتهم في مقابل اصرار اسرائيلي على توجيههم لتعزيز الاستيطان والتوسع في الاراضي المحتلة. ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي هاجر الى اسرائيل 700.000 يهودي روسي مما حدا بأولمرت أن يؤكد في 7 ديسمبر 2007 بمناسبة مرور 40 سنة على بداية الهجرة اليهودية السوفياتية إلى إسرائيل برنامج «عالية»: «إن نضال يهود الاتحاد السوفياتي من أجل حقهم في العودة إلى إسرائيل قد كلل بالنجاح. وقد كان سببا في انهيار الاتحاد السوفياتي، وساهم في جعل اسرائيل دولة أكثر ثراء وتنوعا وازدهارا». 6 شهدت السنوات 1977 2010 تصاعدا مطردا للاستيطان ولم يعد هناك فارق في المعالجة والتصرف بين اليمين واليسار كما أصبحت قوى اليمين المتطرف والحركات الدينية تقود مبادرة الدولة والإتلافات الحاكمة، ويكفي أن نذكر ان دراسة أعدتها حركة «السلام الآن» سنة 2006 أفادت بأن 38.8٪ من المستوطنات هي مقامة على أراض فلسطينية خاصة. ان عشرات آلاف المساكن تندرج في إطار مخططات عمرانية ضخمة. فإذا ركزنا على حركية تطويق القدس وتغيير معالمها الجغرافية والديمغرافية نلاحظ أن المدينة العربية أصبحت محاطة بثلاثة تجمعات استيطانية من الشمال الغربي «جيفات زئيف» ومن الشرق «معالي أدموميم» ومن الجنوب «بيتار» و«إفرات» ضمن كتلة «أتزيون» وهي تجمعات تستطيع أن تستقطب 200.000 مستوطن جديد. وإذا أضيفت إليها مستوطنات المدينة القديمة يمكن أن تستوعب 500.000 مستوطن، فضلا عن ال300.000 ساكن في القدسالغربية. وهذا المخطط العمراني وهو الأخطر يهدف إلى ضم المنطقة (بعد خنق القدس العربية) إلى المناطق داخل إسرائيل من خلال الطرق الحزامية التي تربط المستوطنات وخلق الأرضية لاستقطاب جانب من سكان المناطق الساحلية التي تعتبر عالية الكثافة السكانية وذلك عن طريق المرافق المتطورة والأسعار المنخفضة للمساكن، وإقامة المناطق الصناعية. 7 إن هذا الواقع الذي يتغير على مرأى العين ومن يوم إلى آخر ليخلق حقائق غير قابلة للزوال، لا نرى له مواجهة من الجانب الفلسطيني أو العربي، وكأنما الأيادي التي تولّده طليقة الحركة لا معارض لارادتها ولا راد لفعلها. وما نخشاه هو أن يكون هذا الواقع الذي تجسد في غفلة من الزمن سيكون من الصعب إزالته أو حتى إن أزيل جانب منه فبكلفة عالية وتنازلات مؤلمة. ان الانطباع الذي يتملك المتابع لهذه التطورات المثيرة هو أن العرب والفلسطينيين مشدودون إلى واجهة المسرح: الأعمال العسكرية والتحركات الديبلوماسية ومقاولات الاستيطان في حين أنهم غافلون أو غير قادرين على التأثير في خلفية المسرح الذي تتولد من رحمه الحقائق العصية عن التغيير: الوقائع الجديدة الجغرافية والعمرانية وما يتبعها من وقائع ديمغرافية تلتف على نقاط قوة الوضع الفلسطيني: الحق في تقرير المصير، والاستعداد للسلام، وممارسة حق العودة، والنمو الديمغرافي الطبيعي الذي يجعل تطور الأوضاع لصالح الفلسطينيين. 8 ان القيادات الفلسطينية والعربية ظلت إلى وقت قريب تعتبر ان الاستيطان الاسرائيلي في الضفة العربية وفي القدس العربية سيحل على الطريقة التي عولجت بها مستوطنة «يا ميت» في سيناء سنة 1982 أو مستوطنات غزة في صيف 2005، في حين ان الواقع يكشف ان الخطط العمرانية في الضفة الغربيةوالقدس أضخم من أن تحل بهذه الطرق أو من خلال شراء المباني وإحلال الفلسطينيين فيها محل المستوطنين. وان النضال ضد هذه الظاهرة السرطانية على تأخره يمكن أن يعتمد آليات ووسائل أخرى وينبني على تحالفات أوسع، وربما الدفع إلى تدخل أطراف جديدة على المستويات العربية والاسرائيلية والدولية. 9 ان إسرائيل تريد أن تجعل من هذا الوضع واقعا غير قابل للرجعة، وعلى الفلسطينيين والعرب أن يجعلوه واقعا قابلا للزوال من خلال جعل كل وسائل النضال والمواجهة وقنوات التفاوض والاتصال والامكانيات المادية والديبلوماسية تفضي إلى ضرب أسس هذا الواقع دون أن تصرف أي ذرّة من هذا الجهد في معارك أخرى مهما كانت الاغراءات والاستفزازات.