بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي أودّ أن أتحدّث في «محطة» هذا الأسبوع عن لقاء مفتوح جمعني آخر الأسبوع المنصرم بطلبة الدراسات العليا (الماجستير) في كلية العلوم الانسانية والاجتماعية (9 أفريل) قسم اللغة العربية. هذا الموعد كان مبرمجا منذ بداية العام الدراسي الذي بدأوا يدرسون فيه كتابي «وجوه مرت بورتريهات عراقية» الذي كان إدراجه في البرنامج باختيار الأستاذة الدكتورة جليلة الطريطر المعنية بالسيرة الذاتية (رسالتها للدكتوراه كانت عن السيرة). في هذه المجموعة من البورتريهات قدمت نماذج من وجوه عراقية عرفتها، وجوه مرت بي ومررت بها وكعادتي دونت عنها ملاحظات ظلت تواجهني كلما قلبت أوراقي الى أن وجدت متسعا من الوقت وشحنة من الحماس والمزاج الملائم لأبدأ بتناولها وجها وجها، كنت أظن في البداية انني أقوم بتوثيق سير أولئك الناس الهامشيين سواء كانوا من المثقفين او من الناس العاديين أحسست وأنا أكتب عنهم بفيض من الحب الحميم الذي من النادر ان يكون عليه المرء في هذا الزمن الذي ارتبك فيه كل شيء بما في ذلك المشاعر. وقد فوجئت بحفاوة الاصدقاء الذين تابعوا تجربتي الكتابية وتجمع لديّ رصيد كتابي عنها كتبه الأصدقاء: سامي مهدي ود. علي القاسمي وحميد سعيد ود. عبد اللطيف اطيمش وهادي دانيال وعبد الجبار العش ود. محمد الباردي ود. مصطفى الكيلاني وغيرهم إضافة الى كتابات الصديقات غادة السمان ود. جليلة الطريطر وفوزية حمّاد ومنيرة الرزقي. ومن المؤكد جدا ان اي كاتب تسعده الأصداء الطيبة لكتاباته ورغم انني في حياتي الأدبية قد استضفت في عدد من الجامعات العربية والعالمية الا ان اللقاء مع الطلبة الذين تشكل اللغة العربية أداتهم ووسيلتهم هم الأقرب إليّ، وأجد نفسي أكثر انفتاحا وتجاوبا معهم، وأفضّل في هذه الحالات ان أرتجل لأن الارتجال ثم الحوار والردّ يحيي تلك المقولة العربية الذكية (الشيء بالشيء يذكر)، وكانت للمغرب حصة مهمة في لقاءاتي هذه بمراكش وفاس والدار البيضاء وأغادير وكان آخر لقاءاتي خلال العام الماضي في كلية الآداب بجامعة ابن طفيل في القنيطرة الذي استمرّ حوالي الثلاث ساعات. وأقول لكم أننا في اي عمر كنا وفي اي موقع أدبي نتعلّم من هذه اللقاءات أكثر مما نعلّم نحن وعندما نفكّر بصوت عال، ونبوح ذلك البوح الصادق فإن اسئلة لم نتوقعها تأتينا وسنضيف لما أضفنا ونتعلّم ما لم يخطر ببالنا. كانت جلسة حيوية لأن الدكتورة جليلة أحبت هذه النصوص فاستطاعت ان تنقل هذا الحب الى طلبتها وهم قد تجاوزوا المرحلة الجامعية (الليسانس) وبدأوا حياتهم العملية (في التدريس غالبا). لم أكن أعلم مثلا أنني اشتغل على الحفاظ الابداعي للهوية العراقية وهي هوية عربية إسلامية مهددة الآن، هوية لها خصوصيتها بحكم تاريخ البلد ومكوّناته الاجتماعية وفسيفسائه العرقي والديني. هذا ما اكتشفته الأستاذة المشرفة د. جليلة وطلبتها ورغم انني عنيته وأردته في أعمالي إلا أنني لم أعبّر عنه في أي لقاء أو حوار، وهناك فرق بين ان يكون الامر تحصيل حاصل او ان يكون هنيا ويسمى باسمه. وقلت في اللقاء: سأقول لكم ان هذه البورتريهات التي قدستها لن تكتب أبدا إذا لم أكتبها أنا، فربما أكون آخر الشهود من قصاصي وروائيي المدينة التي يشكل الشعر والغناء موروثها الابداعي الأول. والشيء نفسه مع أواخر المرحلة الملكية التي قدمتها في روايتي «القمر والأسوار» حيث لم يبق من ذلك الماضي شيء، الشوارع تغيّرت وكذلك الأسماء، والأسر الأولى تحولت الى مدن أخرى، والريف زحف على المدينة حتى أغرقها لدرجة ان هناك من كتب يسألني من الأدباء الذين جاؤوا بعدي: (عن اي ناصرية تتحدث؟ اننا لا نراها ولا نتبيّنها اليوم؟) فأجيبهم: (انني أكتب عن ناصرية كانت ناصرية الذاكرة فناصرية اليوم حتى انا لا أعرف طرقاتها ومبانيها، وقد تهت عندما زرتها للمرة الأخيرة عام 1989 ولولا أخي لما اهتديت الى دار والدي). وكأن اللقاء الذي تمّ في كلية الآداب أرادت معدته د. جليلة ان يتكامل فدعت رسامة معروفة وأستاذة للرسم هي السيدة نصاف الحساني في حوار أثرى حديث «البورتريه» في علاقته الوثيقة بين الكتابة والرسم. وأودّ هنا أن أشكر الدكتور مختار كريم معاون عميد الكلية والدكتور أحمد الخصخوصي رئيس قسم اللغة العربية اللذين كانا مرحبين بي بترحاب ليس غريبا عن أصلاء الجامعيين التونسسين الذين عرفتهم وخبرتهم.