لن نسعى في هذه السّطور إلى تدبّر مدوّنة «زبيدة بشير» الشعريّة، أو الانعطاف على قصائدها بالتحليل والتأويل، فذلك أمر كنّا نهضنا به في دراسة لنا سابقة وإنّما سنلمّ هنا بتجربة هذه الشاعرة إلماما سريعا. غايتنا من وراء ذلك لفت انتباه الدارسين والنّقاد إلى هذه المبدعة التي أسهمت في تطوير خطابنا الشعريّ وإرهاف أدواته اللغويّة والاستعاريّة. ولعلّه من المفيد أن نذكّر، في البدء، أنّ ديوان الشاعرة الأوّل الموسوم «بحنين» كان قد صدر سنة 1968 عن الدّار التونسيّة للنشر وتضمّن قصائد كتبت في مراحل زمنيّة مختلفة بعضها يرتدّ إلى خمسينات القرن الماضي. والمتأمّل في هذا الدّيوان يلحظ أنّه يمثّل لحظتين زمنيّتين اثنتين: لحظة أولى توشك على الانطفاء، ولحظة ثانية تهمّ بالانبثاق... لحظة أولى تتوارى، ولحظة ثانية تتقدّم وهاتان اللحظتان متداخلتان في هذا الدّيوان متشابكتان بحيث يعسر فصل إحداهما عن الأخرى. اللحظة الأولى يمثّلها النّص الرومنطيقي الذي يندسّ داخل هذا الدّيوان يلوّن رموزه وصوره. ومن خصائص هذا النصّ أنّه يعتبر الانفعال مصدر الشعّر ونبعه البعيد. لكنّ الشّعر ليس الانفعال فحسب وإنّما هو أيضا طريقة مخصوصة في الكتابة تولّد الانفعال، من هنا كان اهتمام الرومنطيقيين بأساليب القول وما تحدثه من أثر في المتقبّل. أمّا اللحظة الثانية فيمثّلها النصّ الشعري الحديث، وهو النص الذي خرج عن أجروميّة الإيقاع القديم، وابتكر لنفسه أفقا إيقاعيّا جديدا... ووفق هذا النصّ لا تتلقّى القصيدة الحديثة الإيقاع جاهزا وإنّما تنشئه، لا تستعيده وإنّما تؤسّسه لهذا نجد الإيقاع في القصيدة الحديثة يتنوّع بتنوّع النصوص ويتعدّد بتعدّدها. لكن رغم كلّ ذلك تظلّ قصيدة « زبيدة بشير» قصيدة «مختلفة» وهذا الاختلاف يتأتّى من الرّؤيا التي ينطوي عليها، من اندفاعها، من تفجّرها، من جرأتها، من الآفاق الجماليّة التي تفتحها. زبيدة بشير أسّست، مثلُها مثل العديد من الشاعرات العربيّات في المشرق العربي، خطابا شعريّا جديدا من خلاله احتفت المرأة بنفسها، برغباتها، بعواطفها: أنا في نشوة أحلامي غريقهْ فليكن حبّيَ وهما أو حقيقهْ وليكن قلبيَ قد ضلّ طريقهْ فأنا في نشوة الحبّ غريقهْ هذه المرأة لم تعد تتضرّج خجلا من نفسها، وإنّما أصبحت، على العكس من ذلك تزهو بأنوثتها، وتزهو، على وجه الخصوص، بامتلاكها سلطان اللّغة، هذا السّلطان الذي كان حكرا على الرّجال يتداولونه منذ أقدم العصور. بامتلاك المرأة الأسماء باتت قادرة على السيّطرة على الأشياء، أي باتت قادرة على كسر السّلاسل التي رسفت فيها على امتداد عصور عديدة والمضيّ قدما نحو أفق جديد.. مستدلّة بحدسها، بوجدانها وبانفعالها المتوقّّد المتوهّج: لو كنتُ أملكُ يا حبيبي لاحتضنتُكَ في عيوني وأرحتُ رأسكَ فوق صدري واحتويتُك في جفوني ولكنتُ أمسحُ عن جبينك كلَّ أتعاب الحياةِ بأدمعي يا من مقرُّكَ أضلُعي. هكذا غنّت زبيدة بشير في زمن كان مفهوم الالتزام يفرغ القصيدة التونسيّة من توهجّها ويحوّل لألاء نارها إلى رماد.