كتبتُ، في هذا الركن، قبل سنة ونصف تقريبا، نصّا عنوانه «القصيدة بتاء التأنيث» تحدثتُ فيه عن ديوان الراحلة الكبيرة زبيدة بشير «حنين»الصادر عن الدار التونسية للنشر سنة 1988. وقد قلتُ فيه إنّ هذا الديوان يمثّلُ لحظتين زمنيّتين اثنتين: لحظة أولى توشك على الانطفاء، ولحظة ثانية تهمّ بالانبثاق... لحظة أولى تتوارى، ولحظة ثانية تتقدّم. وهاتان اللحظتان متداخلتان في هذا الدّيوان متشابكتان بحيث يعسر فصل إحداهما عن الأخرى. اللحظة الأولى يمثّلها النّص الرومنطيقي الذي يندسّ داخل هذا الدّيوان يلوّن رموزه وصوره. ومن خصائص هذا النصّ أنّه يعتبر الانفعال مصدر الشعّر ونبعه البعيد. لكنّ الشّعر ليس الانفعال فحسب وإنّما هو أيضا طريقة مخصوصة في الكتابة تولّد الانفعال، من هنا كان اهتمام الرومنطيقيين بأساليب القول وما تحدثه من أثر في المتقبّل. أمّا اللحظة الثانية فيمثّلها النصّ الشعري الحديث، وهو النصّ الذي خرج على أجروميّة الإيقاع القديم، وابتكر لنفسه أفقا إيقاعا جديدا... ووفق هذا النصّ لا تتلقّى القصيدة الحديثة الإيقاع جاهزا وإنّما تنشئه، لا تستعيده وإنّما تؤسّسه لهذا نجد الإيقاع في القصيدة الحديثة يتنوّع بتنوّع النصوص ويتعدّد بتعدّدها. لكن رغم كلّ ذلك كتبت « زبيدة بشير» قصيدة «مختلفة» وهذا الاختلاف يتأتّى من الرّؤيا التي تنطوي عليها، من اندفاعها، من تفجّرها، من جرأتها، من الآفاق الجماليّة التي تفتحُها... من خلال هذه القصيدة احتفت المرأة بنفسها، برغباتها، بعواطفها، فهي لم تعد تتضرّج خجلا من نفسها، وإنّما أصبحت، على العكس من ذلك تزهو بأنوثتها، وتزهو، على وجه الخصوص، بامتلاكها سلطان اللّغة، هذا السّلطان الذي كان حكرا على الرّجال يتداولونه منذ أقدم العصور. وبامتلاك المرأة الأسماء باتت قادرة على السيّطرة على الأشياء، أي باتت قادرة على كسر السّلاسل التي رسفت فيها على امتداد عصور عديدة والمضيّ قدما نحو أفق جديد.. مستدلّة بحدسها، بوجدانها وبانفعالها المتوقّّد المتوهّج. وإنّه لأمر ذو دلالة أن تكتب الشاعرة قصيدتها في زمن كان مفهوم الالتزام يهيمن على المدوّنة الشعريّة الحديثة ويحدّ من شحنتها الوجدانية. وإنه لأمر ذو دلالة أيضا أن تختار العدول عنه لتصل علائق قويّة بين الشعر ووطن الذات، بين الشعر وإيقاع الجسد، بين الشعر واختلاجات الروح. فالشعر، لدى زبيدة بشير، يوجد بعيدا في مطاوي النفس يغذيه الحنين إلى زمن آفل أو الشوق إلى زمن قادم. ولمّا كانت الذات هي وطن الشعر ونبعه فإنّ القصيدة كثيرا ما تتحوّل إلى لحظة بوح واعتراف. ..الكلمات فيها تستمدّ من هذا الوطن القصيّ شحنتها العاطفيّة. لن تكون المرأة بعد الآن قناعا يرتديه الشعراء ليتكلّموا على لسانها، أو ينظروا إلى العالم من خلال عينيها. فالشاعرة باتت قادرة الآن أن تقول ذاتها دون وسائط...وأن تقول ذاتها يعني أن تخرج عن ميراث القبيلة، وتخرج عن قوانينها القامعة، وأوّل قانون خرجت عنه هو قانون الصمت يطبق على المرأة فلا تكشف عمّا يختلج في أعماق ذاتها. وهذا القانون أفصح عنه بوضوح، منذ العصور القديمة، الناقد القيرواني إبراهيم الحصري في كتابه المعروف « زهر الآداب » حين دعا الشاعر إلى أن يتبذّى، في قصائده، في هيئة العاشق الراغب في المرأة، فيما دعا المرأة إلى أن تتبدّى في هيئة الصادّة المتمنّعة، أي دعا الشاعر إلى أن يرتدي قناع العاشق وإن لم يكن عاشقا على الحقيقة ودعا المرأة إلى أن ترتدي قناع الصادّة المتمنعة وإن كانت عاشقة في الواقع. هذا القانون أجاز للشعراء أن يقبلوا على المرأة، أن يتغنوا بها، أن يقبلوا على إغوائها، في حين أوجب على النساء أن يرغبن عن الرجال، أن يتصدّين لسحرهم.هكذا أتاح هذا القانون للرجل أن يكشف عن غائر مشاعره وعميق رؤاه، في حين أكره المرأة على الصمت والتنازل عن حقها في الكلام. والمتأمل في شعر زبيدة بشير يلحظ أنه كان نقضا لهذا القانون، خروجا عنه. لقد تحولت المرأة من موضوع شعريّ يلمّ به الشاعر في قصائده إلى ذات شعريّة، ومن غرض أدبيّ يدير عليه أشعاره إلى ذات كاتبة...وفي الإعلان عن هذا التحوّل تكمن قيمة هذا الشعر...تكمن قيمة هذه القصائد.