أكثر من انتصار وأكثر من هزيمة، هي ما اسفرت عنه الانتخابات المحلية الفرنسية التي ستقرر نتائجها حتما شكل التشكيلة الوزارية المقبلة، وربما شكل الانتخابات الرئاسية عام 2012. واذا كانت الاسباب الرئيسية لهزيمة اليمين بقيادة الرئيس نيقولا ساركوزي هي اسباب ترتبط بالسياسة الداخلية والمالية لا بالسياسة الخارجية، فإن انعكاس التغييرات على السياسة الخارجية هو امر حتمي، مما يدخل في حيز اهتمامنا في العالم العربي. المنتصر بالعنوان العريض وبالطبع هو الحزب الاشتراكي الفرنسي، والمهزوم هو اليمين. لكن الامور ابعد من ذلك وأكثر تعقيدا. فداخل الحزب الاشتراكي ثمة صراعات حادة تدور منذ سنوات بين من يعرفون بالفيلة واضيفت اليهم سيغولين رويال مرشحة الرئاسة السابقة، وبناء على حدة هذه الصراعات خاضت اوبريه هذه الانتخابات مراهنة اما على الفوز أو التخلي عن رئاسة الحزب. لذلك يعتبر هذا الانتصار لصالح مارتين اوبريه ضد منافسيها جميعا وفي مقدمتهم رويال ودومينيك شتروس كان. فمن المعروف ان اوبري لم تؤيد ترشيح الحزب لرويال لمعركة الرئاسة السابقة وانها خاضت ضدها معركة عنيفة لزعامة الحزب. كما ان اسم شتروس كان يطرح للترشح للرئاسة القادمة، هو الذي يرأس حاليا البنك الدولي، غير ان انتصار اوبري يضعف من فرصه. اما داخل اليمين، فإن أول الانعكاسات ستطال التشكيلة الوزارية، وبالتالي سنشهد صراعات كبيرة بين وزراء اليمين حول الوزارات التي ستخضع للتغيير وفي مقدمتها الخارجية التي سيخرج منها حتما برنار كوشنير. غير ان ثمة منتصر بين المهزومين هو رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلوبان، الذي ما يزال يخوض صراعا في المحاكم ضد رئيس الجمهورية، وصل في اخر معاركه، قبل شهرين، الى تبرئة دوفيلوبان مما ادعى عليه به الرئيس، لكن المدعي العام وبناء على طلب الاخير، عاد وميز الحكم، مما نقل المعركة بين الرجلين الى الاعلام والدوائر السرية بشكل حاد وعلني. وبما ان هزيمة الحزب في الانتخابات هي بنظر جميع المحللين تعبير عن معارضة الفرنسيين للسياسة الداخلية للرئيس خاصة مشاريع التعديلات الدستورية التي انتهجها منذ توليه الحكم، ومشكلة البطالة التي وعد بحلها دون نتيجة تذكر، فان اضعافه يعني قوة خصمه الاول، خاصة وان عاملين اساسيين يساعدان على ذلك: عامل خارجي هو انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على نمو الاقتصاد في الغرب ومنه فرنسا. وعامل داخلي هو عودة الان جوبيه الى الساحة السياسية، هو الذي، لم يكن لساركوزي ان يصل الى ترشيح الحزب، لو لم يتم ابعاده قضائيا عن طريقه . والارجح ان جوبيه لن يعود للمنافسة بشخصه لكنه سيدعم دوفيلوبان الذي يعتبر جوبيه اباه الروحي، بعد شيراك. شيراك الذي أدت سياساته في المرحلة الاخيرة من حكمه الى اضعاف معسكره داخل الحزب، كما ساعد تورطه في قضايا فساد على احكام قبضة ساركوزي على عنقه. ووجدناه يتخلى عن وريثه ويده اليمنى الان جوبيه ثم يتخلى تقريبا عن دومينيك دو فيلوبان لينقذ نفسه من المحاكمة والسجن. وتبقى نقطتان اساسيتان في هذا التحليل: دور اللوبي المؤيد لاسرائيل وموقعه من الصراع، والمؤشر العميق الذي تحمله هذه التحولات. لا شك ان اللوبي اليهودي اتخذ قرارا بمعاقبة شيراك منذ زيارته الى القدس، وتعمق الموقف اسرائيليا وأمريكيا بعد موقفه من احتلال العراق وخطاب دومينيك دوفيلوبان في مجلس الأمن. غير ان هذا القرار هو اعمق من ردة فعل على حدث، انه مرحلة في الصراع الابدي داخل فرنسا وأوروبا بين خط الاستقلالية والتوازن: الاستقلالية عن الولاياتالمتحدة والتوازن بين العرب واسرائيل، وخط التبعية او الاطلسة والانحياز لاسرائيل، وبنجاح ساركوزي سجل الخط الثاني انتصارا قاصما لاسباب كثيرة من اهمها ان شيراك لم يكن محصنا مسلكيا ليحمي نفسه وخطه، ومنها ان الأمريكيين مارسوا عليه حصارا اقتصاديا من خلال اللوبي المالي وجعلوا الفرنسيين يشعرون بذلك ليوهموهم بان مجيء ساركوزي سينهي الازمة، وهنا لا بد ان نذكر ان المال العربي لم يكن خارج المعركة، فقد حجب بقسوة عن حكومة شيراك واغدق على حكومة ساركوزي. غير ان حسابات الحقل اختلفت على البيدر، فمن جهة وجد الرئيس الجديد نفسه رئيسا لفرنسا كلها، وعليه بالتالي ان يتصرف بناء على مصالح ناخبيه لا على مصالح الذين اوصلوه وحدهم. ومن جهة ثانية، جاءت الازمة الاقتصادية العالمية لتمنعه من تحقيق وعوده، بل ان الوضع قد ساء. اما العامل الثالث الذي قد لا يفهمه كل ناخب لكنه يحكم عمل الرئيس، فهو اختلاف حال التوازنات الدولية والاوروبية. ويبقى المؤشر الذي يشكل سببا ونتيجة في ان واحد هو ان الفرنسيين عادوا وبقوة الى فرنسيتهم. لقد اراد ساركوزي ان يقنعهم بفرنسيته هو ابن المهاجر الهنغاري فنبه فيهم حسهم الوطني ان لم نقل العنصري، وانعكس ذلك على الحزب الاشتراكي نفسه حيث تقدمت اوبري الفرنسية الصرف على كل منافسيها من فيلة الحزب وجلهم من اليهود المتصهينين. ولعل ذلك ما سيرتد على اليمين نفسه وبقوة اكبر ان لم يكن في الانتخابات الرئاسية القادمة ففيما يليها، خاصة وان الفرنسيين العرب والمسلمين يتجهون وبردة فعل سياسية نحو دومينيك دوفيلوبان القريب جدا من الثقافة العربية والذي ينسج بذكاء هادىء علاقاته مع العالم العربي. وإذا كان من الواضح للقراءة ان الفرنسيين غير راضين عن حكومتهم بدليل عدم نجاح أي من أعضائها وعدم حصول أي من اللوائح التي يقودها وزير بالمركز الأول في أي من المناطق الفرنسية. فان اي تحليل لا يستطيع ان يقرا بوضوح التحولات المقبلة في ضوء الامتناع غير المسبوق عن التصويت. وفي ظل التعديلات التي سينتهجها الرئيس الذي ما يزال الشخصية الأكثر حظا للترشح عن اليمين في انتخابات 2012. مما يجعلنا نتوقع رئيسا اشتراكيا.