لم أعثر، وأنا أطالع الكتب الشعريّة الحديثة، إلاّ على قصائد قليلة تدور حول الأمّ. والشعراء، في هذه القصائد القليلة، لم يكتبوا عن أمّهاتهم بقدر ما كتبوا عن الأمومة، أيّ لم يحتفوا بدلالات الأمّ الوجدانيّة/الذاتيّة بقدر ما احتفوا بدلالاتها الأخلاقيّة/الجماعيّة. وثمّة من الشّعراء من خلع على صورة الأمّ طابعا رمزيّا فحوّلها إلى «مجازٍ» أو «صورة بلاغيّة» تُمكِّنُ الشاعر من «الكلام بشيء وهو يريد غيره» على حدّ تعبير البلاغيّين القدامى. فشاعر كبير مثل أدونيس لم يلتفت، في كلّ قصائده، إلى أمّه، وقد تأوّل ذلك، بافتتانه بأبيه. فأثره فيه كان أقوى من أثر أمّه، فهو الضوء وهي الظلّ، وربّما أنشأ موته المفاجئ بينهما علاقة جديدة قوامها «التذكّر». أدونيس أصبح، على حدّ قوله، يستعيد حياته في ظلّ أبيه، يستلذّ الرّجوع إلى صور طفولته الأولى، وهذا ما جعل «الأب» عميق الحضور في شعره. لكن هذا الحضور، يقول أدونيس «جاء على نحو معقّد يمكن اختصاره في هذه الصّيغة «إنّه ضدّ الأبوّة مع الأب». أمّا الأمّ، وهي التي لا تزال على قيد الحياة، فقد كانت بالنسبة إليه مثل «الطبيعة» ارتبط بها لا بالولادة وحدها بل بالهواء والفضاء، مضيفا «أنّها هي نفسها طبيعة» خصوصا أنّها لا تقرأ ولا تكتب. فهي « مظهر ناطق من الطبيعة، شجرة من نوع آخر، أو نبع يتكلّم».. لقد كانت في نظره جزءا من الطبيعة لا من الثّقافة. شاعران اثنان شذّا عن بقيّة الشعراء وجعلا من الأمّ إيقاعا متواترا في قصائدهما: هما محمود درويش ونزار قباني. الشاعر محمود درويش لم يتحدّث عن أبيه «سليم» إلاّ لماما... هذا الأب الذي تحوّل بعد النكبة إلى «عامل زراعي» محبط، بينما تبسّط الشاعر في الحديث عن جدّه الذي أطرد من حقله واختار أن يسكن قريبا منه ينظر إليه صباح مساء هكذا استقرّ «فوق تلّة يطلّ منها على أرضه... وإلى أن توفيّ... ظلّ يراقب المهاجرين من اليمين يعيشون في أرضه التي لم يكن قادرا على زيارتها». لكن تظلّ صورة « حوريّة» أم الشاعر أهمّ من سكن فضاء قصائده تشعّ بحضورها الجميل على الصور والرّموز والأقنعة. ومن أشهر القصائد التي حضرت فيها الأمّ قصيدة «أحنّ إلى خبز أمّي وقهوة أمّي» وكأنّ درويش يستعيد، على نحو خفيّ بيت المتنّبي في رثاء جدّته: أحِنُّ إلى الكأسِ التي شربتْ بها وأهوى لمثواهَا الترابَ وما ضمَّا يعلن الدّرويش في هذه القصيدة أنّه يخاف الموت لأنّه يخجل من دمعة أمّه. (واستطرد قائلا: إنّ هذه القصيدة بدت لأدونيس من قبيل البكاء الشعريّ الذي يضحكه). بيد أنّ أهمّ القصائد التي دارت على الأمّ في مدوّنة درويش هي قصيدة «تعاليم حوريّة»، هذه الأمّ التي ظلّت تعدّ أصابع الشاعر العشر وترفو جوربه المقطوع وتزجي إليه الوصايا تلو الوصايا: تزَوّجْ أيّةَ إمرأةٍ منَ الغُرباءِ أجمَلَ مِنْ بَنَاتِ الحيِّ لكِنْ لا تُصدِقْ أيّةَ امرأةٍ سِوايْ وَمِنْ أجْمل الوَصايا التي قدمتها الأمّ لإبنها: انطلقْ كالمهْرِ في الدنْيَا.. وارجع إذا اتسعَتْ بِلاَدُكَ للبِلادْ ويظلّ نزار قباني أكثر الشعراء تمجيدا للأمّ يعدّد آلاءها في العديد من قصائده. ففي مذكّراته أسهب في الحديث عن هذه المرأة التي كانت تخصّه دون سائر اخوته بالطيّبات «وظلّت ترضعه حتّى سنّ السابعة وتطعمه بيدها حتّى الثالثة عشرة» وتواترت صورة الأمّ في الكثير من مجاميعه رمزا لطفولة لم يستطع الانفصال عنها. ففي قصائده الجميلة «خمس رسائل إلى أمّي» يقول: أنا شاعرٌ لا يزالُ على شفتيهِ حليب الطفولهْ لهذا ظلّ يحنّ إلى تلك المرحلة البعيدةِ، مرحلة الطفولة بل ظلّ يحنّ إلى ما قبل تلك المرحلة حين كان جنينا في بطن أمّه: عندمَا يأْتِي أيْلُولْ أشْعُرُ برَغْبَةٍ قَوِيَّةٍ للعَوْدَةْ جَنِينًا إلى رحِمِ أمُومَتِكِ. هل ولد نزار قباني؟ كلاّ إنّه مازال متشبّثا برحم أمّه لا يريد النزول إلى الأرض: كيف أقول إنّنِي وُلِدْتُ وَلَمْ أَزَلْ في بَطْنِ أمّي جَالِسًا كَفَرْخَةٍ مَذْبُوحَةٍ مَنْتَظِرًا أنْ يأْخُذُوا أمّي إلى طَاولَةِ الوِلاَدَةِ فليْسَ غَرِيبًا بعد هذا أن يصرخ نزار قباني صراخ طفل قطعوا حبلَ المشيمة عنه: يا أمّي يا حبيبتي يا فائزة قُولي للملائكَةِ الذين كلّفْتِهِمْ بِحِرَاسَتِي خمْسينَ عامًا أن لا يتركونِي لأنّني أخافُ أن أنَامَ وَحْدِي.