«إلى شعراء الحداثة العربية وهم في طريق الجلجلة والى قرائهم المفتونين بشغب الشعر وقلق القصيدة أهدى الدكتور حاتم الصكر « قصائد في الذاكرة « وهي قراءات استعادية لنصوص شعرية لقامات وأسماء لها حضورها في المشهد الشعري العربي نشرها مؤخرا مع العدد 52 من مجلة دبي الثقافية واختارها عبر ذاكرة واعية مدركة قادرة على التقاط جوهر المعنى من النص أثناء النظرة الأولى إليه. قدمها سيف المري رئيس تحرير دبي الثقافية فقال:» من يقرأ هذا الكتاب يكتشف ويرتشف جديدا من المعنى في معتق من القول ومضيئا من المبنى لمن لهم في السبك قوة وحول فهي لغة جديدة قديمة جلا فيها المؤلف بسيل رؤيته ورويته من فوق طلول القصائد ما عناه من سجدوا لمعناه». والدكتور حاتم الصكر من أهم النقاد في المشهد الثقافي العربي ساهم في الارتقاء بالخطاب النقدي العربي وله حضوره الفاعل في الساحة الأدبية وله العديد من المؤلفات المتقدمة في منهجها النقدي والتي تناول فيها قضايا الشعر والسرد العربيين وابرز من خلالها إيمانه بأهمية السعي إلى إزالة الحدود بين الأجناس والأنواع الأدبية وبضرورة ضخ دماء جديدة في الجامعات التي مازالت تهيمن عليها المنهجيات القديمة وذلك بغاية إدخال النظريات الحديثة ويعتقد الصكر ان الطريقة المثلى لتحقيق هذا الهدف هي الاصطدام بالعقل العربي حتى يستيقظ من سباته.
الاصطدام بالعقل العربي حتى يستيقظ من سباته
اختار الصكر قصائد عربية معروفة جدا نالت حظها من الشهرة ووضعها في إطارها ألزماني والمكاني وعرف بقائليها من كبار الشعراء العرب كقصيدة نزار قباني» خبز وحشيش وقمر» التي عكست بهيجانها الصوري واللغوي وتوالي قوافيها المقيدة-الساكنة ما عاناه نزار قباني من هيجان شعوري ونفسي حين قارن حال العرب بحال الغرب ولاحظ الصكر ان الخطاب الشعري في هذه القصيدة التي جاءت على بحر الرمل ذو التفعيلة الكثيرة الحركات والسكنات جاء رافضا للواقع قابل فيه القباني الشرق بالغرب وذكر بالدوي الذي أحدثته هذه القصيدة رفضا وقبولا مما ضمن استمرار حضورها في الذاكرة الشعرية زمنا طويلا. ومن قصائد بدر شاكر السياب اختار الصكر قصيدة «أنشودة المطر» التي عالجت علاقة السياسي بالفني من خلال ترميز برنامج القصيدة الوطنية وهدفها الإيديولوجي المعبر عن معتقدات السياب الثورية كشيوعي في ظل حكم ملكي يحكم العراق زمن كتابة القصيدة وصياغتها بشكل ترنيمة طقسية تبتهل عبر استذكار المطر لقيام غد جديد عادل وسعيد. وعن قصيدة « هذا هو اسمي» التي نظمها ادونيس مطلع سنة 1969 ايام الهزائم والأزمات التي هيمنت على العقل العربي وقد تصدرت تلك الأزمات أسئلة الهوية حيث اثر الانتماء إلى شعب مغلوب وأمة مهزومة على الشعرية العربية المكتوبة في السنوات اللاحقة ولعل هذا ما يفسر البحث عن أشكال اشد تحررا وانطلاقا في البنية الشعرية والهيجانات الشعرية والصورية واللغوية والإيقاعية فضلا عن الدلالات الناقدة للواقع والأنظمة والحياة التي رضي بها الشعب واستكان لها. قرئت هذه القصيدة على أنها مكاشفة مع الذات عن كنهها ومع الجماعة عن حقيقتها وأحقيتها في الحياة حيث صرح خلالها ادونيس بأمله في وطن آخر يبرق في عتمة الزمن كما صرح بخيبته لان الأمة استراحت في عسل تقاليدها وميراث أغانيها ولم تعد تعرف أين الباب للخروج من واقعها ولا تسال عنه.
أبو القاسم الشابي زواج شعري بين الرومانسية والقوة
ولم ينسى الصكر شاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي واختار من بين قصائده أشهرها وهي «إرادة الحياة» من ديوان «أغاني الحياة» الذي تجسد فيه زواج شعري بين العذوبة الرومنسية والقوة السوبرمانية وهما -والحديث هنا لحاتم الصكر-أهم مؤثرين في تجربة الشابي التي وجدت تجسدها في اندفاعها الفتي المستمد من فتوة الشاعر نفسه فهو يعلي أفكاره ويرمزها ليبني صورا شعرية مرجعها الوحيد هو الطبيعة كنموذج جميل لما لم يدنسه البشر في أهوائهم وشهواتهم وكمثال لما تكون عليه القوة التي لا تلين لضعف وخمول. وفي كتاب «قصائد في الذاكرة «أيضا نجد قراءات لقصائد نازك الملائكة ك» الكوليرا» التي حاولت فيها أن تثبت أنها سبقت السياب في كتابة الشعر الجديد وكقصيدة « احن إلى خبز أمي» لمحمود درويش التي لم تكن مفردة الأم فيها تعبيرا عن الوطن والأرض فحسب وإنما استخدام عاطفي يمجد وجود أمه في حياته الخاصة حيث انه يرى ان هنالك ما يستحق ان نعيش من اجله على هذه الأرض لذا سيخجل من موته الذي يثير دمع أمه. وقصيدة «لا تصالح» لأمل دنقل التي طالب فيها بحذف الصلح أوالتصالح كحل للصراع العربي الصهيوني وإنهاء التراجيديا الفلسطينية لا على الطاولات بل بالمقاومة وبالدم. وقصيدة « الجسر» لخليل حاوي التي كانت جمعا غريبا بين رومانسية واضحة في حرية الخيال والافتتان بالصورة وبين العقلنة المجسدة للصراع بين القديم والجديد والموت والقيامة والفكر والعاطفة. كما حلل حاتم الصكر قصائد للجواهري والمقالحى والماغوط والبردوني وحبيب الصايغ والبياتي وصلاح عبد الصبور وانسي الحاج وغيرهم. تحاليل حاول من خلالها ان يثبت ان بعض النصوص تحتل في الذاكرة الشعرية مكانا لا يقدم أو يهرم بل يظل عالقا بجدرانها وفي مركز الوعي منها وذلك عن طريق تحليل نصها وشرح سياقاتها وما ولدته من محايثات فنية وجمالية رغم أنها ليست أفضل ما نظمه هؤلاء الشعراء أو أشهر ما قالوه ولكنه اختارها على ما يبدو نظرا لما صاحبها من ظواهر كالتدوير والنثر والرمز والاحتكاك بالموضوعات الاجتماعية وبالسائد من القناعات والممارسات السياسية والقضايا الفكرية.