القاهرة خاص الشروق من حبيبة عبد السلام 52 عاما مرت على ثورة يوليو ولا تزال الاحجار «الكريمة» وغير الكريمة تلقى على هذه الثورة وشخصياتها... معها او ضدها لتحرك بين الفترة والاخرى المياه الراكدة. بل ولتنبش في أحيان ثالثة حتى في القبور وتفتح الملفات مجددا. وقد كان الاحتفال بذكرى الثورة هذا العام اكثر سخونة من كل مرة لأنه تزامن مع حوارات الاستاذ محمد حسنين هيكل على قناة «الجزيرة» حيث ساهمت رحلته في «البحث عن المعنى» في تقليب المواجع وفي اثارة بعض المتحفظين على آرائه... بل وعلى شخصه نفسه ايضا. وقد انطلقت معركة من نوع خاص دار جزء منها على اعمدة الصحف المصرية ومازالت البقية تأتي هذه المعركة فتحت ملف الصديقين عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر. وأدار المعركة نجله «صلاح» بالنيابة عنه ووجه اسلحة غالبها من مخزون العاطفة ضد هيكل حيث اتهمه بسرقة مذكرات والده واخفائها لاحتوائها على حقائق مخجلة حسب ادعائه تسيء الى عبد الناصر... صلاح لم يكتف بتوجيه تهمة السرقة وانما وجه الى عبد الناصر ورجال الثورة تهمة قتل والده. نافيا عنه واقعة الانتحار. «الشروق» في القاهرة واكبت هذه الاجواء الساخنة التي تزامنت مع طرح هذه الورقة في سؤال متجدد من ملف قديم وتعرض في السطور التالية وجهة نظر صلاح عبد الحكيم عامر، كما استطلعت وجهات نظر عدد من المفكرين والمؤرخين المحايدين في هذه القضية باعتبارهم لم يكونوا محسوبين ضمن رجال عبد الناصر والذين نفوا عن هيكل تهمة السرقة وأوضحوا ان اسرة المشير تسعى لاثبات شجاعته وهذا امر يمكن فهمه لكنهم اكدوا في المقابل واقعة انتحار المشير. * سألنا في البداية صلاح ابن المشير عامر عن سر هذا الهجوم الذي بادر باعلانه في عدد من الصحف المصرية ضد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل خاصة وان بعض المقالات اتهمتك بأن هناك أيادي خفية حركتك في هذا التوقيت بالذات لهدف مغاير وهو التشويش على نجاح حلقات هيكل التي تبث في قناة الجزيرة؟؟ «صلاح» ردّ بحنق شديد وكأنه للتو جاءه خبر وفاة والده المشير عامر قائلا: لقد طرحت الملف رغم قدمه لأنه في رأيي لا يمكن ان ينسى او يموت والحقائق التاريخية لابد من توضيحها في ا ي وقت والامر بدأ عندما أجرت معي احدى الاسبوعيات حوارا قبل الاحتفال بذكرى يوليو فقلت ما أنا واسرتي مقتنعون به... نعم هيكل نفسه الذي اقنع والدي بتسجيل مذكراته وكان مقربا في ذلك الوقت من المشير واقتنع والدي برأي هيكل بحكم الصداقة التي تربطهما وشرع في تسجيل مذكراته على اسطوانات «بكر» وحصل هيكل على نسخة منها اما النسخة الثانية فقد دفنت في حديقة منزل والدي بالجيزة والنسخة الثالثة تم الاستيلاء عليها حين تم اعتقاله. ويتابع «صلاح» حديثه وتعلو نبرة صوته مع توالي الاحداث: لقد أكّد لي عمي ان هيكل لديه نسخة من المذكرات وعندما اتهمته بالسرقة كان بناء على معلومات حقيقية... ولكن هيكل تعمد اخفاءها نظرا لانها تحتوي على معلومات مخجلة عن عبد الناصر وتوضح اخطاء ناصر ويمكن الاستناد للمذكرات عند الرجوع الى احداث ما قبل النكسة واثناءها. * وتتدخل «الشروق» في الحوار وتسأله: ولكن لماذا تصف هذه الحقائق بأنها مخجلة؟ فيرد صلاح عامر على الفور: من المعروف ان هيكل اتخذ موقف الدفاع عن عبد الناصر فيما تناوله في كتاباته عن ثورة يوليو وعن ناصر ولم يعترف بأي اخطاء ارتكبها الرئيس... ولأن المذكرات تكشف جزءا من تلك الاخطاء فانه كان لابد لهيكل من تعمد اخفائها. أما لماذا مخجلة... فلأن عبد الناصر تعمد تحميل المشير كل الجرائم التي كان هو المسؤول عنها، من أمثلة ذلك قرار اغلاق خليج العقبة في اجتماع ابو صوير الشهير رغم علم عبد الناصر بأن القوات المصرية موجودة في اليمن، وقد استفز هذا القرار اسرائيل وسارعت بخطوات اعلان الحرب، رغم عدم استعداد مصر لها فقد قرر مع ذلك ناصر اغلاق خليج العقبة رغم خطورته فكان خطأ فادحا، وهناك ايضا قرار خاطئ تم تحميله لوالدي بما ينافي الحقيقة... وهو قرار سحب قوات الطوارئ الدولية. وكان سببا رئيسيا في نشوب الحرب في يونيو 1967 وكل الشهادات والوثائق تؤكد أن والدي لم تكن له علاقة بهذا القرار، فعبد الناصر هو الذي اصر على رفع قوات الطوارئ وطلب رفعها من مناطق بعينها مثل غزة، وترك مناطق اخرى ولما طلبت الاممالمتحدة رفعها بالكامل او الابقاء عليها بالكامل طلب عبد الناصر من محمد فوزي ان يرفعها بالكامل وهذا قرار سيادي يملكه رئيس الجمهورية وحده، ولم يكن من سلطة اي احد ان يتخذ قرارا من نفسه مهما كانت علاقته بالرئيس او حتى صداقته الوثيقة به. * «الشروق» لكن والدك كان موافقا على القرارات التي اتخذها عبد الناصر والمحاضر التي سجلت بعض الاجتماعات والتي نشرت عن اجتماع مجلس الثورة تؤكد على أن المشير وجه سبابا وشتائم لصدقي محمود والضباط حين كان عبد الناصر يناقش معهم رغبته في ان ينتظر حتى تنفذ اسرائيل ضربتها الجوية الاولى... وذلك في عرض رده عليهم حين عارضوا رأي ناصر؟ لم يكن والدي يسبهم بدافع موافقته على قرار الرئيس بقدر ما كان ذلك لرؤيته في ان هناك حدودا في التعامل مع رئيس الجمهورية. * وتتدخل الشروق: لسؤال صلاح نجل المشير عامر عن قضية اخرى ضمن الاوراق الخلافية التي طرحها متهما بها عبد الناصر... وهيكل باخفاء حقيقتها: أنت مصر في توجيهك اتهامات لعبد الناصر... ان والدك مات مقتولا وليس منتحرا فلماذا هذا الاصرار رغم ان العديد من الشهادات ومن بينها شهادة الفريق محمد فوزي في مذكراته تؤكد واقعة الانتحار؟ ويجيب «صلاح» بنفس الحدة التي بدأ بها حديثه مع «الشروق»: هناك أدلة كثيرة على قتل والدي وليس انتحاره... أهمها التقرير الطبي للاستشاري الدكتور محمد علي دياب مدرس التحاليل والسموم بالمركز القومي للبحوث والذي كان المحامي العام قد انتدبه للاطلاع على الاوراق الطبية الخاصة بحادث وفاة المشير... وجاء في تقرير الدكتور دياب ان مادة «الايكونتين» السامة التي وجدت في تحليل دم المشير، تقتل اي انسان بمجرد اقترابها من فمه بينما قرر النائب العام وقتها ان المشير تناول السم يوم 13 / 9 / 1967 ومات يوم 14 / 9 / 1967... اي بعد يوم كامل من تناوله هذه المادة السامة وهو يتعارض مع ما قاله الطبيب دياب خبير السموم... ثم ومن وجهة اخرى فانك استندت لمذكرات الفريق فوزي للتأكيد على وفاة والدي منتحرا ولكني اتساءل: لماذا لا تستند بنفس القدر على مذكرات اخرى اشارت الى العكس مثل شهادة كمال الدين حسين عضو مجلس الثورة ورفيق عبد الناصر والمشير الذي يؤكد في مذكراته ان المشير عامر مات مقتولا وانه ليس بالشخص الذي يفكر في الانتحار بل ان ابنه مصطفى أكد مرارا ان والده كان يؤكد دوما على مقتل المشير عن عمد وليس انتحاره. إلى هذا الحد توقف حوارنا مع «صلاح» نجل المشير عبد الحكيم عامر، ولكن دون أن نتوصل إلى شيء، فالابن يحاول الدفاع عن والده وسمعته، وهذا أمر مشروع في عرف العلاقات الأسرية العاطفية لكن ظل السؤال التي حملته «الشروق» معها إليه معلقا: هل سرق هيكل مذكرات المشير عامر؟ وهل ان هيكل تآمر على واحد من أصدقائه لمصلحة عبد الناصر والثورة؟ خطايا المشير وكان لابد من استكمال المشوار.. فلجأنا إلى عدد من الشهود، من المؤرخين والمفكرين واخترناهم من المحايدين الذين لم يحسبوا يوما على الثورة ورجالها، بل ولم يدافعوا يوما عن ناصر، إذ على العكس من ذلك قد يكونوا هاجموها أكثر مما دافعوا عنها، على الأقل لأن بعضهم سجن في عهد عبد الناصر. وقد أكدوا ل»الشروق» أن شهادة صلاح عامر هي من باب اثبات شجاعة والده الذي تعد خطاياه كثيرة وواضحة للعيان، وأوضحوا أن المشير لم يكتب مذكرات في حياته لأنه لم يكن يملك وعيا تاريخيا وثقافيا يؤهله أو يدفعه لهذا الأمر خاصة أن وهذه المهمة غير هينة. في البداية ينفي المؤرخ يونان لبيب رزق عن هيكل تهمة سرقته لمذكرات المشير عامر، للعلاقة الحميمة بينهما من جهة، ولأن المشير لم يكتب في حياته أية مذكرات.. ويوضح انه لا يرتاب في هذه الحقيقة فالمشير ليس من الشخصيات ذات الوعي التاريخي والثقافي ولم يعرف عنه حبه للكتابة أو تدوين المذكرات. وحول تهمة قتل عبد الناصر للمشير والتي جدد «صلاح» نجله توجيهها لناصر بعد أن وجهتها من قبل أسرة المشير وآخرون يرد يونان لبيب رزق أن هذا الكلام عار من الصحة ويضيف: أننا لم نسمع طوال تاريخه عن تآمر عبد الناصر على قتل أحد حتى خصومه موضحا ان الذين يروجون لفكرة مقتله يهدفون إلى التشويش على سمعة عبد الناصر. وحول قرار عبد الناصر برفع قوات الطوارئ الدولية، والذي كان سببا في حرب جوان 1967 أوضح المؤرخ المصري (رزق) أن عبد الناصر كان يتصور وقتها ان الأمين العام للأمم المتحدة «يوثانت» سيستجيب لرغبة مصر في إغلاق الممرات المائية التي تشترك فيها اسرائيل مع مصر، فأغلق خليج العقبة وشرم الشيخ أمام اسرائيل، وعندما أمر «يوثانت» اسرائيل بالعبور من الممرات المائية اعترض عبد الناصر، واعترضت الأممالمتحدة على اعتراضه، واعتبرت قراره مخالفا للقوانين الدولية وأنه ليس من حق مصر أن تغلق الممرات، وكان سببا في حرب 1967 . من جهة أخرى أكد المفكر اليساري محمود أمين العالم على أن الطبيعة الشخصية للمشير عامر تؤهله للانتحار، ونفى تماما ما طرحه نجل المشير من واقعة سرقة هيكل لمذكرات عبد الحكيم عامر، وإن كان (العالم) رفض التأكيد على أن هذه التهمة تأتي للتشويش على نجاح برنامج «مع هيكل» على قناة «الجزيرة» إلا أنه أوضح في الوقت نفسه أن إلقاء هذه التهمة في هذا الوقت يمكن أو يوضع تحت أي مسمى أو تبرير، قد يكون لاسترداد كرامة المشير المهدرة، أو لتأكيد شجاعته وأنه ظلم من عبد الناصر أو لتبرئة ساحته من خطايا ارتكبها وهي كثيرة ومعروفة للجميع على حد قوله. وعلى الرغم من أن محمود أمين العالم واحد من الذين اختلفوا مع المشروع الناصري فإنه يدافع عن مبدإ مهم في رأيه وهو ان الدول الثلاثة بريطانيا واسرائيل وفرنسا كانت متآمرة على مصر لأن عبد الناصر صاحب مشروع عربي تنموي مستقل يواجه الاستعمار ويقف ضد كل النوايا الاستعمارية ويسعى للحفاظ على خصوصية واستقلالية التجربة، لذلك فهو يرى ان قرار رفع قوات الطوارئ الدولية لم يكن السبب الرئيسي لحرب جوان 67 ويؤكد العالم من جهة أخرى ان عبد الناصر كان على وعي تام بموعد العدوان الاسرائيلي، ويتساءل: لماذا كانت الطائرات المصرية على الأرض طوال ليلة العدوان، وقاعدة الطيران الرئيسية تزهو وترقص وتغني طيلة الليل، وكيف يحدث ذلك والمشير وقادة جيشه يعلمون بموعد الحرب مسبقا، مشيرا لوجود مؤامرة في ذلك الوقت لقتل عبد الناصر. وعندما استوضحت «الشروق» عن قصده بالتحديد لمؤامرة قتل عبد الناصر، رد بأن ناصر عندما يمرض كان يجد طبيبه الخاص والسيارة الطبية في انتظاره.. لكنه عندما أصيب بالأزمة القلبية الأخيرة لم يجد طبيبه الخاص كما لم يطلب أحد طبيب القلب الخاص به إلا في اللحظات الأخيرة. شهادات النائب العام من جهة أخرى عادت «الشروق» الى شهادة محمد عبد السلام النائب العام الذي تولى التحقيق في حادث المشير والذي سجلها في كتابه «سنواب عصيبة» والصادر عن دار الشروق عام 1975 حيث حاول الاجابة عن السؤال الذي لاحقه : هل انتحر المشير؟ ويؤكد أن خلاصة ما جاء في قرار النيابة عن حادث المشير بعد سماع كل الأطراف وأقوال المشير بالتصريح أو التلميح كانت تنبىء عن أن فكرة الانتحار كانت تراوده وبالأخص عندما شعر أن حريته أصبحت مقيدة وقد سبق أن حاول الانتحار يوم 25/08/1967 عندما طلبوه لمقابلة الرئيس عبد الناصر وفهم أن النية متجهة الى اعتقاله وظلت فكرة الانتحار مسيطرة عليه ونفذها لحظة تيقنه في يوم 1967/09/13 من أن الأمر متجه الى اعتقاله منفردا بعيدا عن منزله فأقدم على الانتحار للحيلولة دون اعتقاله. ويستشهد بأقوال نجية ابنة المشير التي أكدت أنها رأت المادة السامة في فم والدها قبل مغادرته منزله مما جعلها تستنجد بالآخرين لسرعة اسعافه.