لقد تواصل توافد الأتراك على بلادنا منذ أن قدموا سنة 1574 لطرد الأسبان , وتواصل تدفقهم منذ ذلك التاريخ أين شغلوا مناصب مختلفة سواء كانت عسكرية أو إدارية فضلا عن ممارستهم التجارة والصناعة في مختلف الاختصاصات وقد أثر هذا التواجد على عادات السكان الأصليين سواء فيما يتعلق باللباس أو الأكل أو الموسيقى كإدخال المصطلحات التركية في اللغة العامية وتغيير طريقة ممارسة بعض الفرائض الدينية حيث انتشر المذهب الحنفي وبرزت في المجتمع التونسي عدة ظواهر غير مألوفة كالاحتفال بالمولد النبوي الشريف أوزيارة مقامات الأولياء والصالحين أو الغناء الصوفي . هذا التمازج بين الأتراك والعرب تحول في بداية القرن الماضي إلى حالة من الجفوة والعداء تسببت فيها ممارسات قادة حزب الاتحاد والترقي عند وصولهم إلى الحكم إذ طبقوا نظاما صارما متنكرين لوعودهم السابقة حول المساواة بين شعوب السلطنة العثمانية لكن العرب من جهتهم كان لهم دور كبير في تعميق هذه الجفوة والكراهية فنشأ غضب كبير من الجانبين أثر حتى على بعض القراءات التاريخية اتهم على اثرها القوميون العرب تركيا بالتعامل مع العرب وكأنها قوة احتلال في حين أن تركيا كانت ناصرة للإسلام وعملت على حماية الاقاليم العربية من أطماع القوى الغربية التي كانت تترصد لها . تواصلت الحالة العدائية بين العالم العربي عموما وتركيا خلال كامل القرن الماضي إلا أن الأوضاع بدأت تتغير في العشرية الاخيرة وبرز هذا التغيير بكل وضوح منذ تولي السيد رجب الطيب أردوغان مقاليد الحكم فبدأ العرب يشعرون أن تركيا التي ابتعدوا عنها قد تغيرت بالكامل وأنها تحولت شيئا فشيئا إلى قوة اقليمية ترغب في تجاوز حالة الجفاء التي اتسمت بها العلاقات العربية التركية , وإذا بتركيا التي ساندت قيام اسرائيل وعادت العرب خلال عقود طويلة تغير سياستها لتصبح نصيرة للشعب الفلسطيني ومؤازرة للمواقف العربية , وهو أمر أثر إلى حد كبير على الرأي العام في أكثر من دولة عربية, وهو ما يجعل المتابعين للشأن التركي يطرحون أكثر من سؤال حول مستقبل العلاقات العربية التركية وهل أنها في طريق العودة الى صحوتها الحقيقية أم أن هنالك قوى جذب داخلية وخارجية ستمنع هذه العلاقات من التطور نحو الأفضل. تحليل هذه العلاقات واستقراء المستقبل الذي ينتظرها يتطلب العودة إلى تاريخ هذه العلاقات كبيان الأسباب التي حولت تلك العلاقات الأخوية إلى علاقات صدامية فيها الكثير من التجني من كل طرف على الآخر تاريخ طويل مشترك بدأ التاريخ العربي التركي المشترك منذ اعتناق القبائل التركية الأولى للإسلام في القرن الثامن ميلادي وتحول الأتراك إلى حماة للإسلام في الدولة العباسية وهو ما مكن بعض العناصر التركية من بسط السيطرة على الدولة العباسية ثم الخروج عنها وإقامة الدولة التركية السلجوقية التي بسطت سلطانها على العراق وإيران وبلاد الشام وفرضت المذهب السني على حساب المذهب الشيعي الذي كان متبعا زمن الخلافة العباسية. سرعان ما ذاع صيت الدولة السلجوقية وكان الانتصار الذي حققه القائد التركي السلجوقي ألب ارسلان سنة 1071 م على الجيش البيزنطي في معركة «ملاذ كرد» قرب حلب له صدى كبير في أوروبا وهو ما حرك الكنيسة الكاتوليكية لتنظيم الحملة الصليبية الأولى لإنقاذ القدس وحماية الدولة البيزنطية , فانطلقت هذه الحملة وتصدى لها الأتراك وتمكنوا من سحقها قرب أنقرة لكنها تمكنت من التسلل إلى منطقة الشرق العربي عبر موانئ أنطاكيا وحلب فقام القائد التركي عماد الدين زنكي بملاحقة الافرنج وحصرهم في مناطق ضيقة وواصل ابنه نور الدين زنكي نفس المهمة وكلف أحد قادته الكبار وهو صلاح الدين الأيوبي بإعداد العدة واسترجاع بيت المقدس وهو ما تحقق بالفعل على ايدي هذا البطل الكبير خلال أربعة قرون كاملة كان للعنصر التركي دور بارز في توسيع رقعة الإسلام فقد تمكن القائد عثمان الغازي المعروف باسم عصمان باللغة التركية من الاستقلال عن الدولة السلجوقية سنة 1299م وأسس الدولة العثمانية التي أصبحت تحمل اسمه وتواصل توسع هذه الدولة في أوروبا حتى آل الأمر إلى قيام محمد الثاني سنة 1453م بالدخول إلى القسطنطينية وفتحها و حول اسمها إلى «إسلام بول» وهو ما يقابله باللغة التركية اسطنبول. في الوقت الذي كان فيه الإسلام يتوسع في الأناضول ويصل أوروبا عن طريق الفتوحات التي حصلت في عهد سليمان القانوني الذي أوشكت جيوشه على احتلال فيانا كان الإسلام يتقهقر في شبه الجزيرة الأيبيرية نتيجة الانحلال الذي طغى على التواجد العربي في اسبانيا وهو ما أدى إلى طرد العرب نهائيا من غرناطة سنة 1492م فبرزت اسبانيا كقوة مهيمنة في الجهة الغربية من منطقة المتوسط وأدت خيانة السلطان أبو الحسن الحفصي إلى احتلال تونس من طرف الأسبان اللذين قتلوا عشرات الآلاف من أبناء هذا الوطن وعبثوا بالمساجد ودنسوها وكان في اعتقادهم أن الإسلام قد تم القضاء عليه في هذه الربوع , لكن العثمانيين هبوا إلى نجدة سكان البلاد واستطاع سنان باشا أن يطرد الاسبان نهائيا من تونس سنة 1574م ويعيد البلاد لسكانها المسلمين لو لم يقم الأتراك سوى بتخليص هذا البلد من الاحتلال الاسباني لكفاهم فخرا ولكن الخلافة العثمانية كانت هي الحامية الحقيقية للبلاد ولكل المنطقة العربية خلال عقود طويلة. استمر الولاء للسلطان العثماني في أغلب الأقطار العربية وكان الدعاء له في صلاة الجمعة متواصلا رغم الاستقلالية التي تمتع بها ولاة الأقاليم الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية الباي في تونس أوالداي في الجزائر. بقي ولاء الأقاليم قائما للخلافة العثمانية وقد تجلى ذلك من خلال مشاركة الأقاليم العربية في الحملات العسكرية التي قامت بها الدولة العثمانية وقيام البايات بتقديم التهاني وإرسال الهدايا إلى الباب العالي كلما انتصب سلطان جديد وقد غضب السلطان سليمان خان عندما تأخر باي تونس حمودة باشا عن توجيه وفد من تونس لتهنئة السلطان الجديد باعتبار أن تونس كانت منشغلة آنذاك بتحرير جزيرة جربة من الاحتلال الذي تسلط عليها وتسلط على طرابلس من طرف أحد القادة العسكريين بالجزائر المدعو علي برغل الذي ادعى أن بيده فرمانا سلطانيا بالولاية وبمجرد أن انتصر الباي على هذا الغازي سنة 1795 م جمع حاشيته وتوجه إليهم بخطاب تمسك فيه بأن المصلحة تقتضي أن يقع توجيه وفد بقيادة يوسف صاحب الطابع إلى اسطنبول لتهنئة الخليفة مصحوبا بهدايا ثمينة من الخيل والسروج والأسلحة المرصعة بالحجارة الكريمة وثياب من جربة والجريد إلى جانب التمر والزيتون ومع كل ذلك السنجق الذي كتبت عليه آيات من القرآن بالفضة . ولما وصل الزورق الذي كان على متنه الوفد التونسي إلى اسطنبول استقبله السلطان ولكنه لام رئيس الوفد قائلا: «لقد أتتني وفود التهنئة من أقاصي الأجانب وأنتم من المسلمين وجزء من ممالكي ولا حاجة لي منكم بالهدية وإنما الحاجة في وصل حبل الإسلام الذي أمرنا الله بالاعتصام به ». إن هذه الروابط القوية بين السلطة العثمانية وولاياتها كانت مشكلة أمام الأساطيل الأوروبية لذلك بدأت المساعي من الغرب لإفساد هذه العلاقة وحصل الاختراق الأجنبي عن طريق القنصليات الأجنبية ولم تسلم بلادنا من هذا الاختراق فلقد أوعزت حاشية الباي القريبة من القنصل الفرنسي للباي بقتل وزيره يوسف صاحب الطابع الشديد الولاء للسلطنة العثمانية رغم ما قام به هذا الأخير من خدمة للعرش الحسيني وقد تمكن محمد العربي زروق وجماعته من إقناع محمود باي بذلك فاغتيل في 29 جانفي 1815م وبذلك تمكنت المجموعة القريبة من القنصل الفرنسي من التخلص من شخصية قوية عرفت بولائها للخلافة العثمانية . وقد وقع التشهير بجثة يوسف صاحب الطابع فوقع تعليقها بين جامعه وحنفيته بالحلفاوين وأتى بعض السفهاء للتنكيل بهذه الجثة ومن بينهم بعض اليهود الذين جروا جثته إلى الكنيسة وعبثوا بها . لم تسلم أية دولة عربية من هذا الإختراق الأجنبي كما لم يسلم السلطان العثماني من عملية الابتزاز التي مارستها ضده الصهيونية العالمية . اختراق اليهود للسلطنة العثمانية ارتقى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عرش الخلافة العثمانية سنة 1876م وكان طموحا للغاية وسعى إلى تطوير المجتمع التركي فأنشأ جامعة اسطنبول سنة 1890 م وأحدث المدارس العليا وجلب الطلاب العرب للدراسة بتركيا وانعكس هذا الإصلاح على الأقاليم العربية ووصل به التفكير إلى استبدال اللغة التركية باللغة العربية لولا اعتراض الصدر الأعظم سعيد حليم باشا. كان رواد الإصلاح في المنطقة العربية يعتبرون تركيا في ذلك الوقت دولة حامية للإسلام وكانت الدولة العثمانية في نظر هؤلاء الرواد تشكل القوة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها لمواجهة الاستعمار الغربي . بدأت بريطانيا وفرنسا من خلال سياسة خداع وقع استعمالها في تحريض النخب العربية على الثورة ضد الخلافة العثمانية خاصة بعد أن انتشرت فكرة القومية داخل أوروبا عن طريق «ارنست رنان» وقيام الوحدة الألمانية بزعامة «بيزمارك» سنة 1871 م والوحدة الإيطالية بزعامة «غاريبالدي» سنة 1864م. اليهود بدورهم تحركوا في خط مواز مع الانقليز والفرنسيين فقد التقى «هرتزل» أكثر من مرة بالسلطان العثماني بوساطة من يهودي مجري بداية من سنة 1900 م وعرض عليه منح اليهود حقوقا على فلسطين مقابل سداد المنظمة الصهيونية العالمية للدين العام للدولة العثمانية لكن السلطان عبد الحميد الثاني أطرد «هرتزل» في آخر لقاء جمعه به قائلا له: «إن الوطن لا يباع بالمال». نتيجة لهذا الموقف الحاسم ونتيجة للضعف الذي بدأ يدب في هياكل الخلافة العثمانية بعد أن خسرت الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرتها خلال حروب أنهكتها بدأت مع النمسا التي أبعدت الأتراك من أغلب الأراضي الاوروبية واستمرت مع روسيا, ونتيجة لخسارة الشمال الإفريقي بدءا بالجزائر سنة 1831وتونس في 1881 وانسلاخ مصر بقيادة محمد علي عن السلطنة العثمانية ظهرت بتركيا حركة الإتحاد والترقي وهي حركة ينتمي جل أفرادها للحركة الماسونية وبدأت هذه الحركة تفكر في الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني وهوما حصل بالفعل عندما استمالت جانبا من القوات العثمانية وخلعت السلطان التركي وسلمت مقاليد الحكم إلى أحد مؤسسي هذه الحركة وهو أنور باشا الذي بدوره نصب سلطانا جديدا وهو محمد الخامس. يرتبط العرب والأتراك بروابط تاريخية نادرة الوجود فليس هنالك قطر عربي لم يحصل فيه امتزاج بين سكانه الأصليين والأتراك , لم تشذ تونس عن هذه الظاهرة فهنالك اليوم العديد من الأسر سواء بتونس العاصمة أو بغالبية المدن الساحلية والجزر الشرقية للبلاد تعود جذورها إلى تركيا.