ليس لأنّك لا تستحقّ الرثاء بل لأنّك لا تحبّه...وهو إحساس تقاسمناه وتبادلنا فيه الرأي مرارًا أمام البحر في تلك الهنيهات النابليّة القصيرة...معترفين بأنّ من حقّ الراحلين علينا أن نواصل الحديث معهم كأنّهم يحيون... لن أرثيك لكنّي أواصل الحديث معك... هل تعرفُ أنّي قرأتُ إرساليّة نعيك: «محجوب العيّاري غادرنا!! » فأخذتُ أبحث عن رقم تليفونك في ذاكرة المحمول؟! ماذا أريد الآن برقم تليفونك؟ أن أسمع صوتك لأتأكّد من أنّك بخير؟ أن أهاتفك لتنفيَ الخبر؟ أن أبحث لنفسي عن لغةٍ قادرة على رفضِ رحيل أيّ شاعر أو كاتب أو مبدع؟ لن أرثيك يا محجوب... لكنّي أرفع رحيلك صرخة احتجاج، مرّة أخرى، في وجه هذا الصيّاد الذي لا يكلّ ولا يملّ...أسأله بسذاجة الطفل نفسه: ألا تكتفي يا موت؟ ألا تشبع يا موت؟ ألا تتعبُ يا موت؟ لماذا لا تستريح يوم الجمعة أو يوم السبت أو يوم الأحد أو على الأقلّ في العطلات الرسميّة؟ لماذا لا تتقاعد؟ لماذا لا تضع منجلك جانبًا كي تستحمّ وتقصّ مخالبك؟ لماذا لا تُغرَم ب«الفوتبول» أو بلعب الورق أو بمشاهدة المنوّعات الفارغة؟ لماذا لا «تحرق» إلى المرّيخ أو إلى الجحيم أو إلى ستّين داهية؟ لماذا لا تنشغل عنّا بمن يستحقّ الموتَ فعلاً؟ أستطيع أن أمدّك بأسماء ألف مُحتلّ، ألف مُستبدّ، ألف غشّاش، ألف مهرّب مُخدّرات، ألف مُجرم حرب، ألف نخّاس، ألف لحّاس، ألف منافق مزهوّ بنفاقه، ألف مُتملّق متبجّح بتملّقه، ألف رديء يزرع الرداءة في المقروء والمسموع والمرئيّ ويُفسد الذوق وينشر الأميّة نكاية في الجمال والمعرفة... هؤلاء معروفون يا موت...معروفة عناوينهم الشتويّة والصيفيّة، معروفة أرقام هواتفهم القارّة والمحمولة، معروفة «إيميلاتهم» وصفحاتهم «الفيسبوكيّة»... فلماذا لا تنشغل بهم عنّا؟ لماذا لا تنشغل بهم عن أحبابنا؟ لماذا لا تنشغل بهم عن شعرائنا وكُتّابنا وفنّانينا ومُبدعينا؟ لماذا نشعر أحيانًا بأنّك تستضعفُنا يا موت؟ لماذا نشعر أحيانًا بأنّك تمهل الجلاّدين وتستعجل الضحايا؟ تُمهل القتلةَ وتتعجّل الإطاحة بالقتلى؟ هل لأنّنا وحيدون مُفردون لا جاه لنا ولا سند ولا سلطة؟ هل نحتاج إلى رشوتك لتغضّ عنّا طرفك وتطفئ الضوء وتمرّ إلى الجوار؟ حتى أنت يا موت؟ حتى أنت تأكل من هذا الصنف؟ حتى أنت لابدّ معك من التزييت والتشحيم والرشوة؟ وماذا نفعل أكثر ممّا فعلنا يا موت؟ ماذا نفعل أكثر من أن نذوب نكتب ونشعر ونغنّي ونرسم كي تصبح السماء أعلى والأرض أرحب؟ أم أنّ هذا هو ذنبنا؟ هل أصبحت أنت أيضًا تُغلّبُ الولاء على الكفاءة؟ هل أصبحتَ أنت أيضًا تفضّل المنافقين على الأحرار الصادقين؟ هل أصبحتَ أنت أيضًا تُثيبُ الرديئين وتُعاقبُ الجيّدين؟ وهل يفعل الشعراء أو المبدعون على هذه الأرض إلاّ أن يموتوا طيلةَ حياتهم، لا يفتقدهم أحد، ولا يسأل عن حالهم أحد، ولا يحلّون ضيوفًا على أوقات الذروة والبرامج الباذخة والصفحات الأولى إلاّ إذا زلُّوا أو زالوا، أي إذا صنعوا فضيحة أو تحوّلوا إلى فضيحة؟ لكنْ يبدو أنّ موتهم لم يعد فضيحة يا موت. لم يعد موتُ الشعراء فضيحةً كافية كي ينالوا جزءًا من الألْف ممّا ينالُهُ نافِخُو القِرْبة مُدوِّرُو الحزام راكِلُو الجِلْدَةِ لَحّاسُو الأحذية...لقد هانوا حتى باتوا يعيشون فإذا هم لا يثيرون انتباه جالس، ويرحلون فإذا هم لا يردّون يد لامس!! لن أرثيك يا محجوب... لن أرثيك لكنّي أواصل الحديث معك... هل قلتُ لك إنّي قرأتُ إرساليّة نعيك فأخذتُ أبحث عن رقم تليفونك في ذاكرة المحمول؟! أحتفظ إلى الآن بأرقام تليفونات أصدقائنا الراحلين...وها هو رقمك ينضمّ إلى أرقامهم...في انتظار أن أُصبح أنا أيضًا رقمًا من تلك الأرقام... أعدك بأن يظلّ رقمُك في ذاكرة المحمول...أعود إليه في أُوَيْقَاتِ الصقيع العاطفيّ والجحود العامّ...وما أكثرها في هذا البلد...كأنّ شيئًا من العقل الخرافيّ يبيح لي أن أتصوّر ما لا يُعقل...فأحلم بأن أطلب مرّةً أحدكم فيجيب... من يدري؟ لعلّ أحد أصدقائنا الروائيّين يختطف هذه الفكرة ويرتكب لنا رواية جميلة نستعيد من خلالها أصوات الغائبين...