الآن وقد هجعت النفوس واستوى الإيمان على قدميه لا نملك إلاّ أن نقول «ما أعظم الموت»... لأنه بكل بساطة يفسّر لنا طبيعة الحياة... ومعدن الحياة... اليوم، يمرّ أسبوع على رحيلك أيها الغالي بعد أن أخذتك الموت من كل بنات الحياة... وكأنّ هذه الموت فتاة رائعة الجمال، فائقة الذكاء، رفيعة الذوق لتقنعك بالذهاب معها وإدارة ظهرك لكل بنات الدنيا وآخرهن تلك التي قالت لك «لن أصبر على ظروفك» وكانت من الخاسرات... بعد أيّام فقط من رحيلك يا ولدي الحبيب وصلني الجواب الشافي عن سر جمالك وسرّ تربيتك وسرّ حيائك وسرّ أمانتك وحتى سر دمعتك... حتى أن جميع زملائي أعادوا عليّ نفس الكلمة بعدما ودعوك إلى مثواك الأخير وقالوا بالحرف الواحد «أي عائلة هذه؟»... ما أروع عائلتك يا محمد.. وأي دفء يلفها برقة ريش الحمام... وأي أصل ثابت ترعرعت فيه يا ولدي... وأي جمال يشع من تلك النفوس البسيطة بساطة المؤمنين وهم يتقبلون نعيك... أي جلمود ذلك الأب عبد الحميد الصلب كالحجر أمام العيون والمتفتت الضلوع كلما هجع الجميع وساد السكون... أي أخ ذلك المسمى رشدي وكأنه قُدّ من مرمر ترى سحر إيمانه في عينيه الصافيتين الراضيتين بالقضاء والقدر... وأمّك يا محمد... آه من أمّك يا ولدي... فقد دمّرتني وحطمتني ومزقتني وأردتني قتيلا إلا قليلا... عندما قالت لي «أشمّ عليك رائحة محمّد».. وقلب الأم لا يكذب يا محمّد لأن رائحتك تسكنني فعلا وأنا أشمها فيّ وفي كامل أرجاء المكتب وكأنّ أنفاسك مازالت تعبق بيننا... وكأنك يا حبيبي بعدُ لم ترحل. منذ ثلاثة أيام وتحديدا في ذلك اليوم الذي لا أدري لماذا يسمونه «يوم الفرق» زدنا التصاقا بكل أفراد عائلتك ولم نفترق إلا على عهد لن ننساه ولن ننكثه بإذن الله وهو ألاّ ننساك... لأنك على قصر المدة التي قضيتها معنا حفرت أخدودا عظيما ينضح بالحب ويسحّ بالاحترام. حبيبي الغالي لو كانت الدموع تردّك لكنت لوحدي قادرا على ردّك إلينا لكن أروع ما في هذا الفراق (إن كانت فيه روعة) أنك لست الأول ولن تكون الأخير وأنك في نهاية الأمر عند العزيز القدير... هكذا هي عظائم الأمور... فسبحانه خلق كل الأشياء لتكبر مثل الورود والأحلام والبشر... وأصابنا بلوعة الموت التي تبدأ كبيرة ثم شيئا فشيئا تصغر.. سبحانك ربي ما أعظمك... نحن العبيد نحن، والملك لك.. فأعزنا يا الله بالصبر بعد هذا المصاب الجلل.. وعزّز لدينا قوّة الإيمان وأترك لدينا نافذة مفتوحة باقي العمر نطل منها على بقايا الأمل. حبيبي الغالي محمد، وأنت ترقد في مثواك الأخير وصلتك ألف رسالة حب وامتنان وتقدير.. فهنيئا لك بكل هذا الحب الكبير من كل من عرفك، كل من عاشرك وكل من بلغته روعتك رغم عمرك القصير... نَم هانئا يا قرّة عيني فكلنا سنعرف نفس المصير.. محمد يا ولدي الأغر أرقد بسلام وأمان وهناء فهذه الدنيا أرخص من أن تكون فيها.. وأنت الفتى الطاهر الذي عشت متساميا على ما فيها.. عوّضك العزيز الحكيم القادر على أعزّ ما فيها ومن فيها.. وكتب لك جنّة الخلود بكل ما فيه.. وألهمنا السلوان والصبر على رحيلك أنت.. ومزيدا من الصبر على آلام هذه الدنيا وقسوة ما فيها ومن فيها..