تكشف عمر طبقات الأرض بغربالها السحري ومكبرتها العجيبة، فتعرف أثر التغير المناخي والجغرافي من خلال تلك الصدفات الصغيرة الساكنة في طبقات الأرض، وإن شعرت بالوجس، فهي لا تستطيع التوقف والتفكير. فكل ثانية تكلف مبالغ طائلة والجميع يعتمد عليها.تدرس اليوم في كلية العلوم، لكنها مازالت مستشارة يلتجأ إليها عند الحاجة إلى الأسئلة أوالبحث والتفتيش.وإن افتخرت بها تونس فلعلمها ومعرفتها، ولأنها المرأة الوحيدة في الميدان العملي والبحث على المصطبات بحراً وبراً. حدثينا عن البدايات؟ كانت ولادتي في القيروان، عندي شقيقان وشقيقتان. جدي لأمي كان رجلاً متفتحاً بالنسبة لعصره، سمح لابنته بالدراسة عند الراهبات فكانت سابقة لعصرها، وشجعتنا على الدراسة، شقيقي الأكبر رشيد طبيب مرموق. والدتي رحمها الله كانت حنونة وشديدة في نفس الوقت. ما زلنا إلى اليوم واعين بقيمة تربيتها.تحصلت على بكالوريا (شعبة علمية). ثم التحقت بالجامعة لدراسة المرحلة الأولى والثانية علوم طبيعية. نجحت من الأوائل فتحصلت على منحة للدراسة في فرنسا لإتمام شهادة الدراسات المعمقة في (مادة الميكروبالنتولوجي، ودراسة الحفريات المتحجرة). لماذا اخترت دراسة هذه المادة؟ كنت أرغب في دراسة الطب كشقيقي رشيد.ثم أردت شيئاً مختلفاً.عند دراستي للعلوم لم أكن اميل كثيراً إلى الجيولوجيا. كانت صعبة ومتعبة.لكنها المادة الوحيدة التي تمكننا من الإختصاص في الخارج. كانت فرصتي للدراسة، والإلتحاق بأخي الطبيب في فرنسا. تحصلت على شهادة الدراسات المعمقة خلال سنة، بعد ذلك لم أرد البقاء في المخبر لتتمة الأطروحة بسبب عنصرية مديرته.عدت إلى تونس وطلبت النصيحة من أستاذي (الدكتور محمد الفقيه). الذي أحترمه جداً. أخبرته بتصرف الأستاذة الفرنسية. وكانت الصدفة السعيدة أن أساتذة من ليون يبحثون عن تبادل للتأطير من تونس إلى فرنسا.كنت الأولى على اللائحة.ذهبت إلى مدينة ليون، وتخصصت في إختصاص آخر زيادة على إختصاصي وهو علم (ostracodes) وهي عبارة عن صدفة تحتوي على محارة صغيرة تعطينا المعلومات التي نبحث عنها. ما نفع دراسة مثل هذه الأشياء للعلم ؟ ممكن القول إن علوم الجيولوجيا تحمل أجندا تشرح بالتفصيل كل ما يخص الأرض وطبقاتها، وخاصة أعمارها منذ النشأة إلى يومنا هذا تقريباً (5 مليارات من السنين), هناك وسائل عدة لتحديد عمر طبقات الأرض لكنها باهظة الثمن. وهذه المنمنمات الصغيرة يمكن أن تدلنا على عمر الأرض بالتدقيق. (تريني راقية تراب في أكياس شفافة بالنسبة لي الجاهلة في هذا الميدان، تشبه كلها بعضها). عندما نضع هذه الذرات تحت المجهر، نجد فيها المحارات الصغيرة التي تشبه بعضها. الخبرة هي الدراسة والتفريق لتحديد عمر الأرض من عمر المحار. لأنهم يحددون المرحلة التي عاشوا فيها. تكونت الأرض من مراحل منتظمة؟ ذلك نظرياً.لكن عملياً هناك رجات وإنزلاقات تغير نظام الأرض.ومن تلك المحارات نكتشف ماذا اندثر وماذا تغير وماذا اختفى.والمحارات تضع كل العلامات في مجالها ومكانها ومرحلتها. وفي مكان العمل (على المصطبة) أنا الأولى والأخيرة التي أفحص التراب وكأنني أحلل الدم. لا مجال للخطإ، ولا للتفكير أو الإستشارة، أو الرجوع إلى مراجع، لا بد أن يكون البحث دقيقاً والقرار سريعاً. هل قابلتك معضلة أثبت فيها دقة بحوثك؟ نعم، حاول بعض الباحثين لشركة عربية تفتش عن البترول في منطقة من مناطق تونس.سمح لهم صاحب أرض أن يمروا تحت أرضه للتنقيب. كانت معدات التنقيب باهظة جداً، وكنت مستشارة الشركة. حاولت البحث والتنقيب عبر التراب الذي استخرجته من البئر المحفور. وأعلمت الشركة أنه إذا كانوا يريدون الحصول على شيء فلابد من الحفر أعمق. أي أن ذلك يتطلب مصاريف أكثر للوصول إلى طبقة البترول. قرروا إيقاف الحفر. وبعد الإستشارة مع شركائهم في البلدين. قرروا العودة والحفر حسب تكهناتي وتقارير بحثي. كيف تقومين بالعمل؟ أصعد على المصطبة (plate – forme ) المزودة بمعدات وشاشات تدل إلى أين وصل الحفر. أبقى أحياناً أياماً وليالي دون أن أغمض عيني. لا يمكنني الراحة لمدة أيام فالحفر يكلف غالياً. الفريق يتبدل كل ثماني ساعات أو اثنتي عشرة ساعة, أما أنا لا بد أن أبقى، لأنني الوحيدة التي يمكنها القيام بمتابعة الحفر والحصول على نماذج من التربة. حتى لا تبقى ذرة متغيبة عن مراقبتي. كيف يكون البحث؟ نظرياً البترول هو صخرة تراسبية. صخرة سائلة أصولها مادة عضوية.عندما تترسب طويلاً، تتحلل، مع مرور الزمن الجيولوجي وكأنها كانت في «طنجرة» ضغط تصل إلى درجة حرارة مرتفعة وتصبح كالزيت.وبما أن الزيت خفيف، عندما يطبخ يصبح متحولاً، يبحث عن شقوق حتى يجد صخرة متلقية. فيها ثقوب تمرر ما بينها. لكن لا بد من غطاء محكم الإنغلاق. حتى لا يتسرب ويضيع, نحفر دون توقف، حتى نصل إلى هدفنا. كيف وصلت إلى مجال البترول؟ عند تحصلي على الدكتوراه، التحقت بالديوان القومي للمناجم، وكانت مساعدتهم مهمة في بحثي للدكتوراه. عملت كمهندسة أولى. ثم التحقت «بشركة شال» حيث تكونت هناك من خلال العمل تكويناً مهماً يستلزم عادة سنوات في مدرسة أكاديمية. وبما أنني أحمل تكويناً عميقاً في الدراسات المتعلقة بالبحوث «الجيولوجية البيوستراتيغرافية». كان ذلك مساعداً ومهماً لأن على الباحث التمكن من معرفة الأعمار المختلفة للأرض جميعها. فوجدت الشركة أن معرفتي تساعد على الدراسات التي تقوم بها في مجال البحوث. بدأت العمل كباحثة في المخبر. وفي أحد الأيام احتاجوا إلى مراقبة على المصطبة. لم يكن هناك أحد متواجد في تلك اللحظة.تردد رؤسائي الأجانب في طلب ذلك مني، امرأة عربية مسلمة تنعزل في مصطبة نائية في البحر، تبعد عن شاطئ خليج قابس مائة وعشرين كلم. يحيط بها قرابة مائة عامل من الذكور. كان الوضع حساساً، حاول كل منهم سؤالي على حدة وبلطف.وكنت ومازلت لا أؤمن بالمستحيل. وشعاري «لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله» كنت خائفة من كبر المسؤولية لكني قبلت دون تردد. كنت باستمرار تحت حماية المسؤولين ولطفهم. طلبوا مني أن أخبرهم إن غيرت رأيي.. أو شعرت بتعب. فالعمل كان من اختصاص رجال فقط. وجميع العمال أجانب كما نشاهدهم في الأفلام، عمالقة وبنية قوية. يعيشون فترات طويلة في البحر. وفي البداية شعرت بدوار البحر ثم تعودت. كنت أذهب بالمروحية.وعند وصولي أبدأ العمل، الإحترام كان متبادلاً. وجو العمل مقدساً، لا يمكن للتأزم أن يجد مكاناً فالعمل دقيق. وهناك حالات خطر عدة.نعمل جميعاً على نفس الهدف. حمايتي مرتبطة بحماية الآخرين.وحماية الآخرين مرتبطة بحمايتي. عائلة «مرتصة ومربوطة» بالعمل والصبر والمثابرة. هل كان العمل كما تصورته؟ وجدت العمل مختلفاً عما كنت أتصور. عالم آخر لا يمكن أن تعرفه إلا إذا عشت فيه. الحفر وظروف العمل، المفاجآت والمفاجعات، اللامتوقع. المشاكل التقنية. الإلتزام بأن نعيش كل يوم بيومه، لا يمكن توقع شيء وكأننا نبحث عن إبرة في الصحراء.يستمر التنقيب 24 ساعة على 24 ساعة. والمعدات مستأجرة على حساب الدقائق. لا يمكن التوقف ولو لحظات. وقد ربحت ثقتهم واحترامهم لدقة عملي وسرعته وانضباطي. أذهب أحياناً بعد تكهنات مدروسة وعلى أساس أنني سأبقى يوماً واحداً، فأقيم شهراً أو أسابيع.يستقبلوني دائماً بالترحاب الشديد. لا بد أن الإحساس ممتعاً ؟ أحببت دائماً العمل في الميدان، خيرته على العمل داخل المخابر مما جعلني دائماً الوحيدة التي يمكنها القيام بعمل كهذا، زيادة على المسؤولية الملقاة على عاتقي, أغرمت بعملي.كل مرة ولادة جديدة.اكتشاف ثروات. أشعر بفرحة عامرة عندما أجد أشياء مختلفة عما وجدوه بتقنيات عصرية دقيقة.وأنا بحثي عبر المحارات الصغيرة جداً. أجد أشياء أكثر دقة.كان العمال عندما يرون امرأة تعمل بغربال ومكبرة فقط، يستخفون بذلك. لكن بعد المثابرة والنتائج، تصيبهم الدهشة ويعرفون قيمة العمل. تنقلت بعد ذلك إلى الخارج؟ بقيت في شركة «شال تونيريكس» خمس سنوات. ثم طلبت مني الشركة أن أكون في أماكن أخرى، ذهبت إلى سلطنة بروناي دار السلام، أصغر سلطنة في العالم وأكثرها ثروات. أبعد من السند والهند. وبجانب ماليزيا وأندونيسيا. اختاروني شخصياً للبحث عن البترول في منطقة مهمة جداً بالنسبة للشركة لأنني أثبت كفاءاتي.تشجعت للمغامرة.وبقيت هناك خمس سنوات.كنت أمثل الشركة وكان علمها يرفرف في كل مكان، كان هناك 600 إطار.أربع نساء فقط سكرتيرات أو إداريات. هولنديات أو انقليزيات. كنت المهندسة الوحيدة المختصة والعربية. كيف تحملت متاعب العمل ؟ متاعب العمل جسدية خاصة, لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالتعب أو القلق أو الألم، لا مجال لصداع أو وجع عيون. لا بد من الإحتمال.لكن كل ذلك تعوضه سعادة العمل. الإكتفاء والفرحة بالنتائج الصحيحة، أنا مؤمنة أن الله كان رفيقي في نجاح دراساتي وعملي.تصوري باستمرار هناك من ينتظر نتائجي بالدقيقة والثانية وفي وقت محدود. كنت أدرس العينة التي ترسل إلى المخابر في هولندا لتقارن ببحوث الماكينات العملاقة، يؤكدون نتائجي، سبحان الله الذي يمنحنا معرفة العلم من مخلوقات ميكروسكوبية من خلقه. وبعد خمس سنوات في بروناي دار السلام ؟ عدت إلى تونس بطلب من والدتي خوفاً من وفاتها دون حضوري. وكانت شركة شال قد رحلت من تونس. فالتحقت بالتدريس بكلية العلوم.و بقيت كمستشارة للبحث عن البترول. هل أثر العمل في حياتك الخاصة؟ عندي حياة خاصة وثرية، عائلتي وأصدقائي، فأنا مرتبطة بالعائلة كثيراً. مقدسة عندي. علمتنا والدتي رحمها الله الارتباط العميق والصادق. الانضباط واحترام التقاليد. كانت تربية تقليدية منفتحة نحو العلم والحضارة، لم تكن تناقشنا اختياراتنا لثقتها بتصرفنا, لكن مهما كبرنا لا نكبر عند أمي. علمتنا نعمل الخير، لذلك أردد دائماً «يا ربي قدرنا نعمل الخير ونجيب الرحمة لوالدينا» والقوة لله، في اشد المواقف عندما أشعر بالضعف أتذكر دعوات والدتي, فأتمالك وأندفع إلى الأمام. دعواتها كانت وما زالت سلاحي. هل تعرضت لغيرة أو حسد بسبب نجاحك؟ صاحب صنعتك عدوك، هناك من يحترم وهناك من يحسد ويعرقل، لكن (رزق الحاسد عند المحسود) فذلك يشهد أنني ناجحة هل كان الإلتحاق بالتدريس سهلاً ؟ الطلبة يحبونني رغم شدتي، لمعرفتي والقاعدة البيداغوجية الميدانية التي أقدمها. وأنا إنسانية جداً أدافع عن حقوقهم في الكواليس، وعادلة في معاملتي لهم. هل دفعت الطلبة إلى حب هذه المهنة الشيقة؟ عندما أقدم لهم الدرس، وأعرض عليهم نماذج من الصخور البترولية، والزيوت البترولية، وتقارير وأفلام تحتوي على كنوز الأرض، ينبهرون جداً، لكنهم يريدون العمل في مجال البترول لأن فيه مردودا ماديا مهما. لا يميلون كثيراً للدراسة ولا التعب في البحث ولا يستسيغون ما يحمله من تعب وقلة نوم. هل تدرسين في اختصاصك؟ حاولت ذلك.فلا يوجد غيري لتدريس هذا الإختصاص, لكن عقدة النقص وغطرسة بعض الزملاء. منعت من إيصال المشعل للجيل الموالي الذي أؤمن به لمستقبل أفضل. هل لديك ميولات أخرى غير البحث والتنقيب، موسيقى مثلا؟ أحب الموسيقى التونسية. صادق ثريا، فتحية خيري، حسيبة رشدي، صليحة، نعمة، علية، زهيرة... أحب فيروز، عبد الوهاب، فريد، سعاد محمد، لور دكاش، وأفضل أيضاً القديم لأم كلثوم. ما هي أحلامك؟ إنني بلغت رسالتي. واليوم أحلم بالصحة الجيدة لتسمح لي بالسفر والحياة. والله يخليلي أهلي وأصدقائي. حاورتها: رشا التونسي راقية مشماش.عالمة تونسية، حكاية تحمل حلماً كالحكايات التي نقرأها في كتب الأطفال. طفلة بريئة ولدت وترعرعت في مدينة القيروان المحافظة. لحسن حظها منحها المولى أماً سابقة لعصرها. درست عند الراهبات في طفولتها. أسقطت حبها للعلم على أولادها.بعد وفاة والدهم, كان أولهم رشيد طبيباً مختصاً في القلب. مرموقاً ومحترماً في تونس وفي الخارج. راقية ضيفتنا اليوم شجعتها أمها وشقيقها بعد وفاة والدها، على متابعة دراسة مختلفة ومتميزة. شخصية لطيفة وجذابة، أنيقة ببساطة.مظهرها الهادئ المحتشم لا يدل أبداً على شخصيتها الجبارة وقوة إرادتها.وما وصلت إليه من تفوق في عالم معرفتها.تبدو أصغر بكثير مما أعلنت عنه من العمر.في وجهها الخالي من الأصباغ كثيراً من البراءة. شعرها مقصوص قصير جداً وكأنها تخشى البهرجة والزيف.بدأت رحلتها في الجامعة التونسية، لتقطع رحلة الألف ميل وتروي ظمأها العلمي. فوق مصطبة نائية فوق الأمواج أو في الأرض اليابسة. نجحت في أن يكون حولها فريق مهم من العمال وطاقم من المهندسين والمفتشين عن أكبر كنوز العالم الحديث «البترول».