هكذا تمضي أيّها الشاعر. هكذا تمضي دون صخب ولا ضجيج. لكأنّ موتك امتداد لحياتك، صورة أخرى منها، وجه من وجوهها. فمثلَ حياتك كان موتك مفعما بالكثير من الصّمت، بالكثير من السكينة، بالكثير من السّكون. قليلون هم الذين أحسّوا بفداحة الغياب وقليلون هم الذين أشادوا بما قدّمت من إنجازات شعريّة لافتة. هَلْ أَتَمَحَّلُ لأُدَبَائِنَا الأَعْذارَ؟ ربّما. فقد بقيت، على آمتداد حياتك القصيرة، تكتب شعرك الجميل بعيدا عن لغط ساحتنا الأدبيّة وصخبها. كنت دائما على أطرافها، بعيدا عنها، تخاف «أدعياءها» و«مهرّجيها»، فمخالبهم حادّة وروحك هشة، لا شيء يجمعك بهم. لا شيء فأنت تحبّ وهم يكرهون، وأنت تبدع وهم يثرثرون... لا شيء، في قرارة أرواحهم، غير الخواء.... شعرك لم يكن منفصلا عن حياتك، كان بضعة منها، عنصرا مكينا من عناصرها، بل ربّما تحوّل إلى ضرب من الشّهادة أردت، من خلالها، أن تقتنص، بعض اللحظات الهاربة، في شباك الكلمات: الطّفولة الصّداقة الحبّ نداءات الجسد. لم تكن تكتب قراءاتك وإنّما كنت تكتب انفعالاتك لهذا كتبت دون تعمّل ولا تفاصح ولا تكلّف... كتبت عددا من القصائد هي من أجمل القصائد التونسيّة. هذه القصائد كانت أقرب ما تكون إلى أناشيد مزجاة إلى الحياة والشعر والأصدقاء فالشعر عندك ضرب من الاعتراف بالجميل لكلّ ما تحبّ، لكلّ من تحبّ، لهذا كنت تصرّ دائما على إهداء قصائدك إلى صديق ما، إلى مكان ما، إلى لحظة ما. وفي الإهداء، وفي إهداء القصائد على وجه الخصوص، شكل راق من أشكال الأثَرةِ ونبلُ الرّوح. فكأنّ الشاعر يقول من خلال هذا الإهداء، إنّ هذه القصيدة تحوّلت إلى «هديّة» يرفعها إلى ذلك الشخص، إلى تلك اللّحظة، وفي كلّ هديّة شيء من الذّات، شيء من الرّوح. في أحد نصوص كازنْزَكيس، كنتَ أشرت عليّ بقراءته، يبصر البطل، في الهزيع الأخيرمن اللّيل، القمر مكتملا، يملأ السّماء، كلّ السماءِ فيرفع عقيرته بالصّياح، طالبا من النّاس، يغطّون في نومهم، أن ينهضوا ليبصروا كلّ هذا البهاء، كلّ هذا السّخاء. هذه الرّغبة في الصياح تستبدّ بي الآن... فأنا أريد أن يخرج أدباؤنا من صدفة صمتهم، ويسيروا معي لنشاهد معا موكب اختفاء قمر الشعر، بكلّ بهائه، بكلّ سخائه !