[email protected] « انتابت الصائفة الفارطة .. الوسط الفني بربوعنا .. نوبة فنية أطلقوا عليها : النوبة البريشتية ... وردّدت أصداءها النوادي والفرق المسرحية ورواد التمثيل ورائدوه .. فكثرت التعاليق حول هذا الكاتب والمترجم المسرحي الذي سميت النوبة باسمه .» هذا الكلام كتب في مجلة السينما والمسرح في أوت من عام 1966 , وهي المجلة التي كانت تصدرها كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار بتونس في ذلك الوقت , والتي كان يرأس تحريرها الطاهر شريعة . وكانت هذه الجملة في الحقيقة مقدمة لتقديم محاضرة ألقاها الأستاذ منصف شرف الدين حول بريشت بمناسبة إعداد مصلحة المسرح بكتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار معرضا حول بريشت . قيل هذا الكلام عن بداية حضور بريشت في المسرح التونسي , والذي نعت بالنوبة البريشتية في أجواء بدأ فيها جيل كامل من المسرحيين التونسيين الشباب يتطلعون إلى اجتراح ممارسة جديدة , من خلال اكتشافهم للنظرية البريشتية ,وكذلك من خلال إطلاعهم أثناء دراستهم في فرنسا على التيار البريشتي الذي اكتسح الساحة المسرحية الفرنسية بعد أن اكتشفت بريشت في عام 1954 مع جولة البرلينر أنسوبل Berliner Ensemble وانتباه كبار النقاد لهذا التيار المسرحي الثوري وعلى رأسهم رولان بارت R.Barthes وبرنار دورت B.Dort وجون دوفينيو J.Duvignaud . بداية حضور بريشت في المسرح التونسي هو الذي نعت بالنوبة البريشتية في منتصف ستينات القرن الماضي , لم يكن في الحقيقة مجرد نوبة , ففي نفس العام ظهر « بيان الأحد عشر « الذي ظهر في صحيفة لابراس , وقد أمضاه ثلة من الشباب المسرحي المتحمس ( علي اللواتي , المنصف السويسي , توفيق الجبالي , فرج شوشان , توفيق عبد الهادي , عبد الله رواشد , يوسف الرقيق , الهادي الحليوي , أحمد المراكشي , الناصر شمام , محمد الغربي) والمطالب بضرورة إعادة المسرح التونسي للقيام بوظيفته الإجتماعية . وما كادت تنتهي الستينات , حتى تبنى جيل كامل من المسرحيين التونسيين النظرية البريشتية سواء في تجربة المسرح الجامعي أو التجربة الجهوية أو التجربة الهاوية أو تجربة الفرق الحرّة فيما بعد. كل حسب فهمه وإدراكه لتلك النظرية , فَقُدّت من خلال ذلك ممارسة مسرحية جديدة بنت المسرح التونسي على أساس انخراطه في الهموم الإجتماعية , واليومية والسّياسية , ولعل أبرز تيار استلهم البريشتية واجترح من خلالها لغته الخاصة وخطابه المسرحي هم جماعة « المسرح الجديد « الذين هضموا هذه النظرية وأدركوا حدود وآفاق هذه التعاليم البريشتية , فكانت تجربتهم على قياس تلك الإرادة الفكرية والمعرفية التي أرادوا من خلالها التموقع على يسار المسرح الرّسمي المحتكم لخطاب الوصاية والذي تمثله أيديولوجيا السياسة الثقافية الرّسمية في ذلك الوقت . و بالعودة إلى تلك التسمية « النوبة البريشتية « التي تعود إلى ما يقارب النصف قرن , أي من عام 1962 إلى 2010 , فإن دلالتها تحيل على أن التيار البريشتي , أو النظرية البريشتية مسألة عابرة , أو هي موضة لن تصمد كثيرا . غير أنه بالعودة إلى المحاضرة التي ألقاها الأستاذ المنصف شرف الدين في ذلك الوقت , أورد فيها سؤالا جاء على لسان قلمه كالآتي : « وأخيرا أتساءل : هل مسرح بريشت يصلح لجميع البلدان وهل هو المسرح المناسب للبلدان العربية بصفة عامة ولتونس بالخصوص ؟ « الإجابة عن هذا السّؤال اليوم , يعبّر عنه تموقع المسرح التونسي الآن في علاقته العضوية بالهمّ الإجتماعي . وأكاد أقول أن المسرح التونسي الجديّ والنقديّ والقريب بشكل ما من الهمّ السّياسي يعود بشكل ما إلى الدائرة المعرفية البريشتية واستلهامها بشكل فكري وجمالي في غاية النجاعة والفاعلية , ولم تنقطع العودة إلى المنهل البريشتي منذ محاولات عبد المطلب الزعزاع وفرج شوشان مرورا بالمنصف السويسي وتجربة فرقة قفصة والمسرح الجديد وصولا إلى ما يقدمه الفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي وعزالدين قنون ونورالدين الورغي ... والإجابة أيضا أن بريشت ليس مجرد نوبة بل هو مشروع رؤية مسرحية لم تكتمل ولن تكتمل ما دام الإجتماعي والسياسي في قلب الهمّ المسرحي , وتبقى النوبة , بوصفها تدليلا عن العارض و العابر والاستهلاكي في قلب قناعات من يريد تحويل المسرح التونسي إلى نوبة أو حضرة أو سرك أو مقاولات ترفيهية أو سوبر ماركت للتجهيل والتظليل والماركاتو والفيراج والمزود والبروموسبور والكولسترول الرّمضاني ... وهذا عين ما تقاومه النظرية البريشتية أي النوبة القلبية للمسرح .