لا يمكن في الحقيقة محاصرة مفهوم «مسرح الشّباب» محاصرة واضحة في سياق مسرحنا العربي المعاصر بشكل جليّ . فالتسمية لا تزال فضفاضة رجراجة إلى أبعد حد على الأقل سواء بالنسبة الى الواقع المسرحي العربي أو بالنسبة الى النقد ومهامه التقييمية والتأويلية والمعيارية . فهذه التّسمية لا تزال في أغلب الحالات تتأرجح عندنا بين التّسمية التخصيصية العابرة وبين المفهوم الذي يصعب ترويضه وتداوله ، فمسرح الشباب يعني كل شيء ولا يعني أي الشيء، ومن الجليّ أن التّسمية مرتبطة على إحالة المسرح (أو الممارسة المسرحية) على شريحة عمرية هي شريحة الشّباب، أو هكذا على الأقل ما يمكن أن نفهمه من الوهلة الأولى . لكن هذا الاعتبار يظل منقوصا ولا يفضي بنا إلى تمثل لهذا المفهوم المتداول تمثلا حقيقيا . ٭ إعداد : عبد الحليم المسعودي «مسرح الشباب» إشكالية تسمية : ومهما يكن من أمر فإن صعوبة التسمية تعود بالأساس إلى مصطلح «شباب» نفسه الذي يتجاوز معيارية التحديد العمري ليتورّط في الحقل الدّلالي الخاص به، وهو حقل تحيل مقاصده لا على تحديد معنى «الشّباب» بل ما تشكله فكرة «الشّباب» من دلالة طوباوية وميثولوجية في آن، والدلالتان في رأينا ليستا في حل من شبح المقصد الايديولوجي. وهو ما أدركه المسرح بصفة غريزية منذ التراجيديا الإغريقية وأستحضر في هذا الشأن كيف صاغ كتّاب التراجيديا الإغريقية بشكل ملغز تحوّلات الإنسان من الرّضاعة إلى الشباب إلى الشيخوخة على لسان أسئلة أبي الهول السّفاكس وهو يجادل أوديب على طرف الهاوية السّحيقة . أجل، إن فكرة الشباب ميثولوجية وطوباوية ولا تزال في رأينا من الميثولوجيات الحديثة المرتبطة بواقعنا اليومي في كل مظاهره الرّمزية والمادية التي تحوم كلها حول طوباوية الشّباب الدّائم من مستحضرات التجميل إلى مسرحة الفرجة السّياسية . وفكرة الشباب إيديولوجية لأنها قائمة على ذخيرة من الغواية، ويكفي في هذا السّياق أن نعود إلى القرن الماضي ( القرن العشرين ) الذي شهد التّمفصل بين نهاية الحداثة وما بعدها لندرك الاستعمالات والرّهانات الواسعة التي رافقت فكرة الشباب من مثال التنظيمات السّياسية والحزبية التي أودت إلى خلق أرخبيلات «أمميّات للشباب» في شتى المجالات وصولا إلى تحويل فكرة الشباب إلى قيمة سوقية (Valeur marchande ) منذ الستينات محكومة بجدلية العرض والطلب وأدوات الغواية والترويج . وفكرة «مسرح الشباب» إيديولوجية أيضا، لأن مستعمليها عادة ما يكونون خارج المسرح أي خارج ممارسته، وعادة ما تكون إستعمالهم لهذا المصطلح استعمالا مضاربا، خاصة في سياق أزمة ما، أوفي سياق المعركة التقليدية بين القديم والجديد أوعلى عتبات الدعوة إلى التجديد . وقد انتبه رولان بارطRoland Barthes مبكرا إلى المعنى الإيديولوجي عندما كشف عن القيمة التجارية للفرجة المسرحية البرجوازية ورهاناتها الظهورية (1) . وفكرة «مسرح الشباب» فكرة إلى جانب دلالتها الايديولوجية التي ذكرنا هي فكرة سياسية أيضا إذا ما أعدنا النظر في تاريخية هذا الاستعمال وما حفّ به في تجربة المسرح الغربي. وما هو ثابت تاريخيا أن ارتباط سؤال مسرح الشّباب كان دائما مرافقا لفترة تاريخية معينة Une époque historique وما يحدث فيها من خصوصية تاريخية تحيل على نوع من التّحول الإجتماعي والسّياسي . الدلالة السياسية والإيديولوجية لمسرح الشباب : والدّلالة السّياسية غير منقطعة عن خصوصية الفترة التاريخية والتي عادة ما تؤثر بشكل مباشر في التّعبيرات الرّمزية، ولأن المسرح يظلّ أحد أهمّ الفنون قادرا بحكم طبيعته التفاعلية على إلتقاط إيقاع الحراك المجتمعي فإنه إما أن يستشعر ويلتقط بذور هذه الفترة التاريخية المتحوّلة وإما أن ينخرط في هذا الحراك وإما أن يبشر به وإما أن يقوم بالدّعوة للتعجيل بتحقّق هذا التغيير . فتسمية «مسرح الشباب» تاريخيا لا يمكن فصلها عن الحدث التاريخي الملتبس بالحدث السّياسي كما هو الحال في فترة ظهور هذا المفهوم «مسرح الشباب» وعن أحداث أواخر الستينات في فرنسا والتي توجت بثورة الطلاب في ماي 1968 في باريس والتي اعتبرها البعض استعادة لوهج النفس الاحتجاجي والانتفاضي للكومونة باريس الشهيرة . وتكمن الدّلالة السّياسية لظهور فكرة «مسرح الشّباب» في المثال الفرنسي كما يشير إلى ذلك المنظر والناقد المسرحي الفرنسي جون جوردايJean Jourdheuil في كون أن الميلاد الحقيقي لسؤال «مسرح الشباب» جاء على إثر أحداث ماي 68 في اللحظة التي اكتشفت فيها الحاجة السّياسية العاجلة في المسرح (أي خارج مجال المسرح وضمن موجة تحاول أن تفيض عليه ) حقلا خصبا في تعميق أزمة الدولة، وكذلك حقلا للاستهداف الجماهير وتوجيهها، ويعتبر جورداي في نفس السّياق أن هذه العلاقة بين السياسي ومفهوم «مسرح الشباب» قائمة بالأساس على نوع من المفارقة وهي المتمثلة في كون مسرح الشباب هذا لم تكن محاولاته لتتحقق دون الاندماج في الجهاز الذي سعت إلى إلغائه وهو الدّولة (2) . وإذا كان المسرح الفرنسي يعدّ النموذج الأمثل في تاريخه لرصد فكرة «مسرح الشّباب» ومع الوعي الكامل بالخلفية المرجعية التي قام عليها هذا المسرح على ميثولوجيات المسرح الجديد في الولاياتالمتحدةالأمريكية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات ( الليفانغ ثياتر البراد آند بيبت لاماما أسبريمانتل ثياتر كلوب جنسيس ثياتر بلاك ثياتر ), فإن التسمية فيما بعد أحداث ماي 68 ما فتئت أن عادت في بداية سبعينات القرن الماضي في فرنسا ولكن هذه المرّة من منطق تنظيمي وإداري مؤسساتي لتلبس صفتها الإشرافية ودلالتها السياسية . فقد تجلت هذه التسمية في فرنسا تحت إسم :» مسرح الشباب الوطني « Jeune théâtre national والمرتبط بظهور جمعية مسرحية عام 1971 بمبادرة من الناقد والمنظر المسرحي بيار إيمي توشار Pierre-Aimé Touchard (3) تموّلها وزارة الثقافة الفرنسية وتهدف هذه الجمعية إلى تسهيل دخول الممثلين الشباب المتخرجين من المعهد العالي للفن المسرحي إلى الحياة المسرحية المحترفة (4) . مسرح الشباب والتحول الإجتماعي وقد تمّ فيما بعد تداول هذه التسمية «مسرح الشباب» للدلالة فقط على الشريحة الجديدة من المخرجين والفرق المسرحية الجديدة التي بدأت تكتسح الساحة المسرحية الفرنسية في نظر المموّل والموظف الإداري في وزارة الثقافة الفرنسية المعني بضرورة تمويل هذه المشاريع المسرحية الجديدة المطروحة على طاولة إدارة الإشراف. وظل هذا المعنى على علاّته إلى اليوم، حتى أن مجلة عريقة مثل «مجلة الإستيتيقا» (Revue d'esthétique ) وهي مجلة مختصة في تناول المسائل والتيمات النظرية المستجدة المتعلقة بالفن والجماليات خصصت في منتصف تسعينات القرن الماضي عددا خاصا حول موضوع «مسرح الشباب» (Jeune Théâtre ) لتؤكد على هذه الحيرة تجاه هذه التسمية المؤقتة والتي لا تعني الكثير في الحقيقة في نظر حتى المخرجين المسرحيين الشباب . ومهما يكن من أمر فإن ما حدث في البلدان العربية ذات التقاليد المسرحية العريقة يدل على أن مفهوم «مسرح الشّباب» كان يعني في جملة ما يعنيه هو «التجديد المسرحي» (دون ذكر فعلي لتسمية مسرح الشباب ) مقابل ممارسات مسرحية قديمة وهو ما نلمسه على الأقل بشكل واضح في التجربة المسرحية في تونس وفي سوريا في ستينات القرن الماضي، ذلك أن مفهوم مسرح الشّباب كان يعني بالأساس تجديد المسرح أو إيجاد مسرح بديل على خلفية وجود مسرح قديم مكرّس لم يعد يستجيب للتطلعات الجديدة لجيل مسرحي ناهض . وهذا التجديد غير منفصل بدوره عن الحراك الاجتماعي والتّحول السّياسي الذي يشكل ما سميناه بالفترة أو الحقبة التاريخية المميزة، ففي التجربة المسرحية التونسية يمكن اعتبار تجربة المسرح الجديد في منتصف السبعينات والتي كانت سببا في انطلاق معظم الفرق المسرحية الحرّة التي تبعتها وسارت في ركابها كانت تتويجا للمحاولات التجديدية في النصف الثاني من الستينات والتي كان لسان حالها بيان «الأحد عشر» 1966 وهو أوّل خطاب مانيفستو (5) الذي وقّع عليه مجموعة من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم في ذلك الوقت ثلاثين عاما (أصغرهم يبلغ من العمر 21 عاما وأكبرهم 28 عاما ) عبّر عن روح هذا التجديد استجابة للتحولات التاريخية التي عاشتها تونس في الانتقال من تجربة سياسية واقتصادية إلى تجربة جديدة . والناظر في بيان جماعة المسرح الجديد في تونس يدرك مدى الرّوح التجديدية القائمة على المغامرة والرّغبة في الاستقلالية ورفض الطرق القديمة المعبّدة في الممارسة المسرحية والإلحاح على الانسلاخ من الوصاية الرّسمية التي تمثلها مؤسسة الدولة ولم يكن هذا البيان في الحقيقة المسكون بروح الشباب منقطا عن التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تعيشها البلاد التونسية بشكل سريع في اتجاه الأزمة الكبرى التي توجت بأحداث 18 جانفي 1978 الدامية والتي شهدت كما هو معروف مصادمات بين الحكومة والمنظمة الشغيلة الإتحاد العام التونسي للشغل والتي لم تكن نتاجا إلاّ لتراكمات التّحولات الاجتماعية الصّعبة التي شهدتها تونس . ( التكملة في العدد القادم من الملف الثقافي ) الاحالات والهوامش : (1) رولان بارط، ميثولوجيات، أنظر خاصة مقاله «أسطورتان لمسرح الشباب»، دار سوي للنشر، باريس 1957، ص، 108 . Roland Barthes، Mythologies، éditions du Seuil، Paris 1957 , p, 108. (2) يمكن العودة إلى مقالة جون جورداي Jean Jourdheuil «المسرح كمؤسسة دولة» le théâtre comme institution de l'état المنشور في محلة العمل المسرحيTravail théâtral ، والمذكور بدوره في المحاورة بين كلودين جيروناس Claude Gironès وبرينوتاكلس Bruno Teckels تحت عنوان «مسرح شباب الغد» Le jeune théatre de demain والمنشور في « كراسات الجماليات « العدد الخاص ب» مسرح الشباب، منشورات جون بيار بالاص، بروكسل، بلجيكا 1994، ص, 93. Revue d'esthétique، Jeune Théâtre، 26 /94، éditions Jean Michel Place، Bruxelles 1994.p93 (3) – بيار إيمي توشار Pierre – Aimé Touchard (1903 – 1987) ناقد ومنظر مسرحي فرنسي, أدار العديد من المؤسسات المسرحية الفرنسية كالكونسار فاتوار الوطني للفنون الدرامية والذي بعث من خلاله مسرح الشباب الوطني والديوان الوطني للتوزيع الثقافي أكمل مسيرته المهنية كمدير لمسرح الأورليون . لكنه في نفس الوقت عرف بمؤلفه الشهير التحليلي والتنظيري حول واقع المسرح الفرنسي وآفاقه الذي يحمل عنوان «ديونيزوس» الذي صدر عام 1938 . (4) أنظر في هذا الشأن المعجم الموسوعي للمسرح Dictionnaire encyclopédique du théâtre – Larousse, Paris 1998 تحت إشراف ميشال كورفان Michel Corvin ومادة مسرح الشباب Théâtre jeune بقلم أنياس بيرون Agnès Pierron وريموند تيمكين R. Temkine ، ص، ص 892 – 893 . (5) «بيان الأحد عشر» هوبيان ظهر في جريدة لابريس بالفرنسية بتاريخ 30 سبتمبر 1966, ومن بين الموقعين المنصف السويسي، توفيق الجبالي، محمد الغربي، عبد الله رواشد، فرج شوشان، علي اللواتي، توفيق عبد الهادي، يوسف الرقيق، الهادي الحليوي، أحمد المراكشي، ناصر شمام .