تحية إلى روح الصديق الجيلاني ابن الحاج يحيى أفضل جزاء للرّجال العظام هو أن لا نتأكّد من موتهم ولو بعد رحيلهم بزمن طويل. (جيل رونار). أتذكّرك على حافة قبر صديقك حمادي الساحلي ترثيه قائلا : «ما كنت أظنّني سأطلبك بالهاتف فلا يجيبني صوتك، وأن أنتظر قدومك فلا أراك تملأ باب بيتي، وتطلق في الجوّ ضحكتك العالية الصادرة من الأعماق». ها أنا مثلك اليوم، يفجعني الموت فيك، كما فجعك في صاحبك. لم يمهلك الموت لتتهيّأ لفراق حمّادي، مثلما لم أتهيّأ بدوري لفراقك، أو أعوّد النفس عليه. آلمتك رجلك يوم الجمعة، وذهبت إلى المصحّة يوم السبت، دخلت غرفة الإنعاش يوم الأحد، وفارقت الدّنيا يوم الإثنين.ثلاثة أيام فقط... فلماذا كنت متعجّلا ؟ الموت الطبيعي صديق مخلّص في النهاية بشرط أن لا يكون عجولا ( كلير مارتين). إنا نموت لأننا منحنا جسما يتحلّل على الزّمان، ذاكرة تصاب بالنسيان، وكبد يتكاسل عن المساعدة، ورئة تخمد لطول ما تنفّست، وبصر يكلّ من طول التّحديق، وسمع لا يصله إلاّ الصوت العالي...عندئذ نقول قد بدأ خدر العطل الطويلة، وارتخاء الرّاحة التي تهبنا إياها الحياة بعد إرهاق الحواسّ والعواطف والفكر، وبعد كل ذلك الصّخب الذي عشنا فيه. أما إذا اضطرب القلب واحتجّ على شدّة تشبّثنا بالحياة، وأعلنت دقّاته بداية الفوضى العامّة، فلا مناص من مغادرة الرّكح، والتوجّه نحو باب الخروج. الموت صديق أحيانا للأحياء لأنه يخلّصهم ( بيار جاليناس) جزعت لفقدك ،ولسرعة الرّحيل، أما الموت فلم يخفني،فالموت لا يفاجىء العاقل ولا يرعبه لأنه جاهز دوما للذّهاب. ألا تتذكّر كم فقدنا من الأعزّاء والأخلاّء، وكم طال عهدنا بالموت وهو يتخطّف من حولنا من يريد ؟ فلم الجزع منه، ولم لا نألفه كما ألفنا كثيرا من المرّ في حياتنا؟ إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مرّ المذاق والأسى قبل فرقة الرّوح عجز، والأسى لا يكون بعد الفراق( المتنبّي) صاحبتك منذ سبع سنوات إلى مهرجان سليمان الجادوي بجربة، الذي تصادف تاريخه مع الذكرى الأولى لوفاة حمادي الساحلي. وكانت مهمتي إلقاء كلمة مناسبة عنه، فإذا بك تنبّهني إلى نفورك من الأربعينيات ومواكب التّأبين، وتهمس لي قبل دخول القاعة : « لا تقلب الملتقى إلى مأتم، لقد عاش أخونا حمّادي مرحا، فلنتذكّره بالابتسام». الموت صديق أحيانا للأحياء لأنه يخلّصهم ( بيار جاليناس) قد لا يليق أن يقابل أهلنا وأحبابنا الموت بالدّموع ، خصوصا إذا ما كنّا عشنا بكرامة ونجاح، أو عشنا بكل بساطة حياة حقيقية. فأجمل مجابهة للموت هو ابتسامة، ودعاء للروح المنهكة أن تهدأ وتستريح. لم يخلق الموت إلا ليريح الناس ( ابن سينا) فالحياة حياتان : حياة عابرة وحياة خالدة، وخير الحياة ما أمتعت صاحبها ومن حوله. وهكذا كانت حياتك، فيها قليل من السعي وراء الكسب والمادّة، وسعي كثير وراء شؤون العقل والروح، لأن فكرك الواعي كان أطمع فيها وأقدر على استيعابها. أخطاء موتانا تذبل، أما مزاياهم فتزهر وتخرج وردها في جنان الذّكريات (جيل رونار). قبل أسبوع من رحيلك كنت هنا، تتهيّأ لمهرجان أجيم، وقبل أسبوعين رافقتني إلى ملتقى القصة بمنزل بورقيبة، وقبل شهر كنت تناقش محاضرا في منتدى الفكر التونسي، وقبل شهرين سألتني إن كنت أتذكّر شاعرا من الجنوب عمل زمنا ببنزرت، ولما قلت أن لا أحد يعرف مكانه اليوم، قلت إنك زرته ببيته في « حزوة» بأقصى الجنوب الغربي. هكذا كنت تعيش، وهكذا كنت تتحرّك. فكيف سيمتلىء ذلك الفراغ الذي تركته بعدك؟ الأحياء لا يستطيعون تعليم الأموات أي شيء، وعلى عكس ذلك فالأموات يعلّمون الأحياء.( شاتوبريان). ترافقنا أربعين عاما، نسبح في نفس المياه، نحمل نفس المبادىء، ونجري وراء نفس المثل، أكثر ما يستهوينا اللذائذ العقلية والرّوحية، نقبل عليها ونبحث عنها أينما كانت، لأنها أقرب إلى نفوسنا، ولأننا أقدر على التلذّذ بها من سائر اللذائذ الحسّيّة والأرباح المادّيّة. وهذا ما جرّنا إلى الإسهام في نواد وجمعيات وأنشطة ثقافية كثيرة، رجاء إعطاء معنى لحياتنا، وتقديم بعض الخدمات لوطن نحبّه. الموت يحفظ للمودّة شبابها، والحياة هي التي تذيبها وتفتّتها ( فرنسوا مورياك). لا ترهب القبر يا صديقي، ولا تضجر من حياتك الجديدة،فأنت أدرى بالعالم الذي تركته وراءك، والذي سيظلّ دوما مليئا بما يخيف، عامرا بما يدعو إلى الضّجر. ويكفيك أنك تركت ذرّيّة صالحة، وكتبا نافعة، وذكرا طيّبا بين الناس يجعلهم يتذكّرونك بالاسترحام، والاشتياق إلى مجالسك على الدّوام.